أحمد اليماني - بقلم: صالح شبل
صدق من أسماه ضمير الثورة الفلسطينية
عرفته في مطلع الخمسينات وكان في ذلك الحين مدير مدرسة ابتدائية في مخيم عين الحلوة. أمام المدرسة الشديدة التواضع كان هناك على الأرض خارطة لفلسطين وعليها أسماء المدن الرئيسية. كان في ذلك الوقت المبكر واعيا لأهمية إبقاء الذاكرة الفلسطينية حية وحاضرة في أذهان الطلاب طوال الوقت.
تغير الكثيرون مع الزمن.. أما أبو ماهر فهو ما زال شديد الإيمان بالقضية، واعيا للمصاعب، عاملا دون كلل رغم ظروفه الصحية الصعبة.
يندر أن يحصل لقاء حول أي شأن وطني، ولا يكون هو في الطليعة. إنه دوما حاضرًا. لا ينال منه إحباط أو تشاؤم.
في أحد المرات فوجئت بأحد الرفاق يقول بشيء من الحيرة والضيق:
"لا أعرف كيف أتصرف مع أبو ماهر.. إنه يحرجني بمتابعته يوما بعد يوم.
قلت: لم أعرف أن أبا ماهر يلح من أجل أمر يخصه. لا بد أن هناك سوء تفاهم.
قال: "كما هو معلوم فإن محمد اليماني شقيق أبو ماهر كان أول شهداء العمل الفلسطيني في شباب الثأر إذ استشهد على تراب فلسطين في معركة مع العدو في الأرض المحتلة..
وأضاف المتحدث: "أبو ماهر يلاحقني منذ مدة مطالبا بأن يكو إبنه من بين مجموعة أنيطت بها مهمات تحمل الكثير من الخطورة. وأنا أجد حرجًا في إرساله شاب آخر من نفس عائلة اليماني في مهمة لها هذا القدر من الخطورة.
أحمد اليماني مناضل صلب يعيش إيمانه بعفوية آسرة. يتمسك بالدقة في المواعيد لأنه يدرك بأن الانتظام والدقة أساس العمل النضالي الملتزم.
وسوف لن أتردد في قول ما قد لا يعجب هذا الرفيق الصديق والحبيب. فهو حتى اليوم يرتاد "عيادات الأونروا" تمامًا كأي لأجيء في أي مخيم.
ولا داعي للقول بأن الأطباء الكثر من رفاق "أبو ماهر" أو تلامذته يفتحون له صدورهم في أي وقت ودون سابق موعد. ولكنه يأبى أن يكون غير ما عليه أهل المخيم.
إنه يشعر بأن القرب من أهل المخيم يكون بالعيش مثلهم، يستشعر مشاكلهم ومعاناتهم. وفي هذا الزمن حيث هناك بين القيادات الفلسطينية من لا يشعر بحرج في العيش في فيلات فخمة، ويستقل السيارات الفارهة، في استعلاء واضح على الشعب الفلسطيني المناضل.. يبقى أحمد اليماني ورهط من رفاقه أمناء على تراثهم.. متمسكون بما بشروا به وآمنوا به طوال حياتهم..
في الشأن السياسي يتمسك أبو ماهر بتحرير كامل التراب الفلسطيني. وفي وقت من الأوقات كان ذلك الأمر يبدو "طوباويا؟ وفي غير مكانه. ولكن الأيام أثبتت بأن العدو يعطي الوعود كي يحصل على المزيد من المكاسب. وبدلا من استراجاع ما احتله العدو في حزيران 1967.. فإن المستعمرات اليهودية باتت اليوم تغطي معظم الضفة الغربية ومساحات غير قليلة من قطاع غزة.
وبعد ما يزيد على نصف قرن على تأسيس "حركة القوميين العرب" ما زال أحمد اليماني، وهو أحد أبرز قياداتها التاريخية، أمينـًا على مبادئها المتمثلة في التمسك بالوحدة العربية كهدف استراتيجي ومحوري، والتأكيد على مركزية القضية الفلسطينية، باعتبارها قضية العرب الأولى، وضرورة تجسيد الأخلاق القومية في حياة الإنسان وسلوكياته تحت كل الظروف.
لقد عانى أبو ماهر من الاعتقال الكيفي لسنوات طويلة، وذاق صنوف المعاناة خلال الاعتقال. وفي وقت من الأوقات كان يحتفظ بصورة دائمة بحقيبة صغيرة فيها ما يحتاجه في المعتقل. كان يعتبر الاعتقال وما يأتي معه أمرًا عاديًا لا غرابة فيه. وكان نادرًا ما يبوح بما يلاقيه أثناء فترات اعتقاله المتكررة.
مناضل صلب، قوي الإيمان بمبادئه القومية الوحدوية. وحتى حين درجت فلسفات "القطرية" بتلاوينها وأشكالها المتعددة، ويوم أصبحت سائدة ومنتشرة في صفوف الكثير من التنظيمات القومية، بقى هو والعديد من رفاقه أمناء على الفكر القومي الوحدوي.
أحمد اليماني مدرسة قل نظيرها. وفيًا لمبادئه. صديقـًا صدوقـًا. مناضلا صلبًا لا يتهاون فيما يعتبره مبدئيًا غير قابل للتنازل. عاش طوال حياته مناضلا من أجل تحقيق الوحدة العربية، ومن أجل تحرير فلسطين من النهر إلى البحر..
لك طول العمر أيها الأخ والصديق العزيز الغالي.. وسيأتي يوم تعود عكا وحيفا ويافا. وكل المدن والقرى الفلسطينية ملعبًا لهذا الشعب الباسل الذي يبلغ تعداده اليوم ما يزيد عن 9،25 مليون إنسان.
وفي وقت من الأوقات تنامت على الساحة الفلسطينية دعوات ذات "ملامح قطرية" تدعو إلى فصل القضية الفلسطينية عن القضية القومية العربية. وكان الأخ أبو ماهر بين من تصدوا لهذه الدعوات. وقد أثبتت الأيام (وبثمن باهظ) أن هذا الفصل التعسفي لا يمتلك أي فرصة للنجاح على أرض الواقع. فبعض الأنظمة العربية كان لها ولا زال تدخل مستمر وفاعل في مسيرة القضية الفلسطينية. كما وأن موازين القوى كانت دومًا مختلفة وبشكل واضح لصالح العدو الإسرائيلي بفعل الدعم اللامحدود من قبل الولايات المتحدة وبعض حلفائها. وبالتالي فإن التمسك بالبعد القومي للنضال الفلسطيني ضرورة عملية حتى بالنسبة لهؤلاء الذين لا يؤمنون بهذا الخط.
إن اتفاقيات "كامب ديفيد" و"وادي عربة" أخرجت دولتين عربيتين من دائرة الصراع بداية. وبحكم ما جاء من بنود في هاتين الاتفاقيتين فإن الخاصرة الفلسطينية باتت مكشوفة على جبهتين.
كما أن ما حصل ويحصل في العراق منذ سنة ونيف لشديد الصلة بالقضية الفلسطينية. والعديد من المصادر الأميركية لا تزال تتحدث عن الدور البارز الذي لعبته الأوساط الصهيونية المتحالفة مع اليمين المسيحي المتصهين في غزو العراق واحتلاله. كما وأن الشركات الإسرائيلية تتواجد حاليًا في بعض مناطق العراق.
ولا يوجد ما يفسر حملة الاغتيالات التي تستهدف العلماء العراقيين (قتل منهم حتى الآن قرابة أربعين عالمًا) سوى الدور الإسرائيلي.
هذا دليل آخر يضاف إلى عشرات الأدلة التاريخية التي تثبت الصلة العضوية بين القضية الفلسطينية وقضية العرب القومية.
إن تكريم الأخ أحمد اليماني يستتبع بالضرورة إلقاء الضوء على السياسي الذي التزم به طوال عمره النضالي. واليوم وبعد أن تهاوت كل الأوهام التي كانت معقودة على تسوية تاريخية مع العدو الإسرائيلي "فإن الواجب يقتضي رص الصفوف والالتفاف حول برنامج تحرير الوطن بكامله من الاحتلال. فلم يعد مجديًا الحديث عن أن تسوية جزئية بعد أن توسع الاستيطان في الضفة الغربية وبلغ المدى الحالي. ففي واقع الأمر فإن الظروف الحالية على الأرض لا تسمح حتى بقيام "دولة صغيرة منتقصة السيادة". ولقد تمدد العدو وكثف مستعمراته كي يجعل من احتمال قيام أي نوع من الاستقلال الفلسطيني أمرا غير ممكن التطبيق.
المصدر: الجزء الخامس من الكتاب.
7/1/2011
|
|
|