مقدمة الكتاب - بقلم الدكتور جورج حبش
ربما سيكون من الصعب جدا .. اختصار تاريخ رجل، أمضى أكثر من نصف قرن في معمعان النضال الوطني الفلسطيني، في بضعة صفحات. فالإيجاز مهما كان بليغا ومكثفا يظل قاصرا عن إعطاء الرجل حقه، وإظهار صورته الحقيقية بكل أبعادها , فالرفيق أبو ماهر ، كما اعرف ويعرف الكثيرون، أمضى العمر كله في الكفاح من أجل القضية الوطنية، من أجل استعادة الحقوق الثابتة والمشروعة للشعب الفلسطيني، الذي هجر عن البلاد وأرض الوطن، وعانى ولا يزال مرارة التشرد، وفقدان البيت والممتلكات، وذل العيش في المنافي والمخيمات. فقد شاءت الأقدار، أن تتفتح مدارك الرفيق أبو ماهر على الحياة، فيما كان المستعمرون البريطانيون والصهاينة، يحثون الخطا، لتحقيق أهدافهم، بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، على حساب الشعب العربي الفلسطيني. وقد بلغت المأساة ذروتها في ذهن الفتى أبا ماهر، عندما شاهد الجيش البريطاني، وهو يقوم بإعدام الأبطال الثلاث: عطا الزير ومحمد جمجوم وفؤاد حجازي بمدينة عكا، ولم يكن قد جاوز السابعة من عمره تقريبا.
لم ينس أبو ماهر ذلك المشهد، الذي ترك في نفسه أثرا عميقا، فقد هزت الجريمة وجدانه وكانت بمثابة بداية تفتح وعيه على حجم المؤامرة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني. وقد جاء اندلاع الثورة عام 1936، بمواجهة الخطوات البريطانية الصهيونية التهويدية، لأجزاء من الوطن الفلسطيني، ليدفع الفتى إلى القيام بأولى نشاطاته الوطنية، دفاعا عن شعبه ووطنه، وهو لم يزل طالبا، يتلقى علومه في المدارس. ومنذ ذلك الوقت لم يهدأ الرجل، ولم يستكن يوما، لا في مقاعد الدراسة ولا في إشغاله لوظائف عدة في فلسطين ولبنان. فمن دائرة الزراعة في عكا، إلى دائرة الأشغال العامة في حيفا، تابع أبو ماهر كفاحه ونضاله، من أجل قضايا شعبه ووطنه. كان شعلة متحركة، تتميز بالعناد والمثابرة، فكان محرضا ومنظما، ومعبئا للجماهير للدفاع عن نفسها وحقوقها. وبفضل جهوده ودوره الملموس، شغل الرفيق أبو ماهر موقع أمين سر النقابة المركزية لعمال وموظفي دائرة الأشغال العامة، وأمين سر جمعية العمال العربية في يافا، وأمين سر اللجنة الشعبية المحلية في سحماتا، وأمين سر اللجنة المركزية في لواء الجليل.
وفي ضوء جهاده وكفاحه، قام العدو الصهيوني باعتقاله في النصف الثاني من العام 1948، وأودعه سجن "نهلال" حيث ظل قابعا هناك إلى أن تم إبعاده من فلسطين في مطلع العام 1949 إلى لبنان.
وهناك في لبنان، وقد اعتصرت النكبة قلبه، وتغلغلت المأساة في كل خلايا جسده، ضاعف أبو ماهر الجهود.
فإلى دوره التربوي التعبوي في المدارس والكليات التي عمل فيها، توزعت اهتماماته بين المساهمة في إقامة وإنشاء المنظمات العسكرية من أجل النهوض بعملية التحرير، وبين المساهمة بتأسيس شعبة فلسطين في حركة القوميين العرب، فضلا عن جهود كبيرة بذلها في ميادين العمل النقابي والجماهيري. وفي كل هذا وذاك، كان الرجل مبادرا، يتمتع بقدر كبير من النشاط والحيوية ونكران الذات.
ومع وقوع هزيمة الخامس من حزيران عام 1967، ودخول الصراع مع العدو الصهيوني مرحلة جديدة، كان الرفيق أبو ماهر، أحد أبرز مؤسسي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، التي حملت على كاهلها مسؤولية المساهمة في النضال الوطني الفلسطيني المسلح، لاسترداد الحقوق الوطنية الفلسطينية. والحقيقة أن الرفيق أبا ماهر، كان من أوائل الذين تنبهوا لدور الشعب الفلسطيني الخاص، في إطار المعركة القومية الأوسع. فقد ساهم بنشاط في تأسيس الفرع العسكري لحركة القوميين العرب، مع نهاية الخمسينيات ومطالع الستينيات من القرن الماضي. وتابع باهتمام كبير عمليات التدريب والتسليح والاستطلاع والتخزين، التي كان يقوم بها مناضلو الجهاز العسكري حينذاك، والتي أسفرت إحداها عن استشهاد شقيقه محمد اليماني، مع رفاق آخرين، في الاشتباك الذي وقع مع قوات العدو الصهيوني عام 1966.
إن إيمان أبي ماهر بأن فلسطين جزء لا يتجزأ من الوطن العربي، وأن الشعب الفلسطيني جزء لا يتجزأ من الأمة العربية، هو الذي يفسر مواقفه وممارساته التي ربطت بشكل عضوي وجدلي، بين العاملين الوطني والقومي. فقد قادته خبرته وتجربته الطويلة في معمعان النضال، إلى استخلاص العبر والدروس، التي يأتي في مقدمتها، أن البعد الوطني الفلسطيني ليس نقيضا للبعد القومي، بل يشكل حلقة أساسية في معركة المواجهة والتحرير، تتوسط سائر الحلقات الأخرى، التي بدونها يصعب إحراز النصر على القوى المعادية.
وفي كل مراحل النضال، لم يفقد أبو ماهر البوصلة السياسية. فقد حافظ على إيمانه وتمسكه بالمبادئ القومية الأساسية، وظل عصيا على السقوط في مستنقعات ردات الفعل القطرية الضيقة. فالمرارات التي أثارتها الهجمات والحصارات التي تعرضت لها الثورة الفلسطينية، على العديد من الساحات العربية، لم تفسد عقيدته وانتمائه إلى أمته، وإلى الفكر القومي الديمقراطي التقدمي، المستند إلى ثقافة عربية أصيلة وتاريخ عربي مجيد. ومن هذا المنطلق، كان أبو ماهر، دقيقا في التعبير عن الأسباب التي توجب إبراز الشخصية الوطنية الفلسطينية، وحماية القرار الوطني المستقل، من كل محاولات الوصاية أو الاحتواء. ففي حديثه عن مفهومي الشخصية والاستقلالية الوطنيتين، كان يشير على الدوام، إلى أنهما مفهومان وطنيان بأبعاد قومية، وكفاحية وأممية وإنسانية، ومشبعان بكل معاني ودلالات النضال من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
وارتباطا بذلك تصدى أبو ماهر لكل الاتجاهات التي حاولت استغلال إبراز الشخصية والحفاظ على الاستقلالية، لتعزيز مفاهيم قطرية ضيقة وخاطئة. ففي جميع مواقعه في الجبهة الشعبية ومنظمة التحرير الفلسطينية، وفي المنتديات السياسية والفكرية والمحافل العربية والدولية، كان أبو ماهر واحدا من أبرز المدافعين عن العلاقة العضوية بين البعدين الوطني والقومي للصراع الفلسطيني / العربي- الصهيوني، إلى درجة باتت معها هذه العلاقة، أحد أهم السمات التي تطبع شخصيته ومواقفه.
وإلى جانب اهتمامه بعرى الرابط الوثيق بين القضايا الأساسية المشار إليها أعلاه، انشغل الرفيق أبو ماهر بتعزيز الوحدة الوطنية الفلسطينية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، وفي صفوف الشعب ومجمل قواه وفعالياته السياسية والاجتماعية. وكان يؤمن إيمانا عميقا، ولا يزال، بأن سلاح الوحدة، هو أحد أهم الأسلحة لمعركة المواجهة وتحقيق الأهداف الوطنية العليا. وأستطيع القول بتجرد وموضوعية، أنه لعب على الدوام، دورا أساسيا في الحوارات الوطنية الفلسطينية -الفلسطينية، والفلسطينية- الوطنية الفصائلية، لتوحيد الصفوف ورصها بمواجهة التحديات الكبيرة التي تعرضت لها الثورة على امتداد سنوات السبعينات والثمانينات. وكان قادرا بحكم تجربته ونزاهته وعلاقاته الواسعة، على إدارة الحوار مع الجميع، مع كل الاتجاهات السياسية الوطنية والقومية والماركسية والإسلامية. وقد ساعدته صفاته الشخصية ومكانته السياسية ومجمل صداقاته، على إدارة حوارات معمقة، على مستويات مختلفة، صبت جميعها في مصلحة العمل الوطني والقومي، وعلى المستويين الفلسطيني والعربي.
غير أن أبا ماهر، كان يربط دائما بين الوحدة وضروراتها الوطنية والسياسية، وبين الأسس والقواعد التي يجب أن تبني عليها. فالوحدة إن لم ترتكز إلى القواسم السياسية الوطنية المشتركة، فإن من الصعب الحفاظ عليها، وحمايتها من كل أشكال التصدع وعوامل الانهيار. وفي ضوء هذه القناعات، خاض أبو ماهر الكثير من المعارك السياسية، من موقعه في اللجنة التنفيذية بمنظمة التحرير الفلسطينية، بمواجهة الخروقات والانحرافات التي مارسها قادة الاتجاه اليميني المتنفذ، خروجا على برنامج القواسم الوطنية المشتركة، وتجاوزا على قرارات المجالس الوطنية الفلسطينية وقرارات المجلس المركزي واللجنة التنفيذية.
وفي مواجهة الميل المتزايد لليمين الفلسطيني للمساومة على الحقوق الوطنية الفلسطينية، رفع الرفيق أبو ماهر الصوت عاليا، داعيا إلى التمسك بالثوابت الوطنية، واستنهاض القوى والطاقات الوطنية، لمحاصرة الاتجاهات التفريطية، واستعادة "م.ت.ف." إلى برنامجها وخطها الوطني. وكان يرفض بشكل قاطع كل الذرائع التي يجري سوقها لتبرير السياسات التراجعية والتنازلية، التي تمهد للتخلي عن الحقوق الثابتة والمشروعة والتاريخية. وكان يتقدم الصفوف الوطنية دوما، لفضح محاولات الاختباء وراء المواقف والشعارات التي تدعو إلى "المرونة" و"الاعتدال" و"الواقعية السياسية"، لتعليل النكوص عن برنامج الإجماع الوطني، والتراجع عن قرارات المؤسسات التشريعية والتنفيذية. ولهذا كله، كان أبو ماهر ضد اتفاقات أوسلو، وما أفرزته من وقائع ومعطيات، وضد النهج الذي قاد العمل الوطني الفلسطيني، إلى سلسلة من المآزق التي شهدتها الساحة الفلسطينية، على امتداد عقود السبعينيات والثمانينات والتسيعنيات، وبخاصة ذلك النهج الذي قاد المنظمة إلى مؤتمر مدريد، والتوقيع على الاتفاقات المشؤومة، الظالمة والمجحفة بحقوق الشعب الفلسطيني.
كان أبو ماهر يرى أن سياسات القيادة الرسمية الفلسطينية، إبان الحصار الذي فرضته "إسرائيل" على بيروت، تنطوي على توجهات خطيرة. كان يرى في استغلالها لظروف الحصار الصعبة، لإجراء لقاءات وإطلاق مواقف سياسية، لا تنسجم مع برنامج الإجماع الوطني، مؤشرات جديدة على مدى استعدادها، للاقتراب أكثر فأكثر من التسوية السياسية التصفوية التي تسعى لها أمريكا والدول الأوروبية الغربية. وفي المجالس الوطنية الفلسطينية، التي انعقدت بعد الخروج من بيروت، تصدى الرفيق أبو ماهر مع رفاقه في الجبهة الشعبية وأعضاء آخرين في المجلس، لجنوح القيادة اليمينية النافذة، نحو انتهاج سياسة تراجعية، تقوم على أساس التعامل مع الحقائق والوقائع والمعطيات التي أفرزتها حرب لبنان، باعتبارها حقائق ثابتة وساكنة وأبدية. فصعد من هجومه على هذه السياسات، مشددا على أن رفع وتائر النضال والتحدي السياسي، هما السبيل لتخطي الواقع القائم، وتجاوز الصعوبات المحيطة بالثورة. وللحقيقة فقد كان الرفيق أبو ماهر، في طليعة أولئك الناس الذين يدعون إلى قراءة الواقع وفهم صعوباته، ولكن من أجل تغييره. فقد كان ولا يزال، يؤمن بأن شعبنا يختزن من الطاقات والإمكانات، ما يجعله قادرا على ابتكار الوسائل والأساليب الكفاحية الكفيلة بتغيير الواقع، وفتح الآفاق أمام إجبار العدو والعالم على الاعتراف بحقوقه، في حال توفرت له شروط كفاحية ملائمة وعلى رأسها قيادة ثورية.
لم يكن ذلك غريبا ولا مستغربا، على رجل جعل النضال نهجا وأسلوبا حياتيا، يعيشه يوميا، في البيت، في المدرسة، في الوظيفة، في المؤسسة، في حركة القوميين العرب، في الجبهة الشعبية، في منظمة التحرير الفلسطينية، وفي علاقاته مع القوى والناس. وبدون أي مجازفة أو مبالغة، يمكن القول أن سلوك الرجل كان أنموذجا يحتذي. فقد اشتهر أبو ماهر ولا يزال بنظافة اليد واللسان، وبقدر كبير من النزاهة الأخلاقية. الأمر الذي جعله يستحق لقب "ضمير الثورة" فقد عرفه الجميع، إنسانا متواضعا إلى أبعد الحدود، في مأكله وملبسه ومعيشته، وحساسا إلى أبعد الحدود، تجاه رعاية عوائل الشهداء والأسرى، وتجاه واجب الاهتمام بهم وتكريمهم، وتقديم كل احتياجاتهم في حدود الإمكان. أما الشهداء والأسرى والمعتقلون، فلم ينس يوما، التذكير بواجب الوفاء للأهداف التي من أجلها قضى الأوائل نحبهم، ومن أجلها يعاني القابعون في الزنازين وخلف القضبان أشد أنواع المعاناة الإنسانية.
آمن أبو ماهر، بأن الشعب الفلسطيني سيبقى عصيا على كل محاولات كسره، وأن الأجيال المتلاحقة ستتابع النضال لاستعادة الحقوق الوطنية الثابتة، مهما طال الزمن. وايمانا منه بهذه الحقيقة، ساهم أبو ماهر برعاية الطموحات السياسية والفكرية والثقافية والنضالية للأجيال الجديدة. وساهم في دعم الخطوات التي استهدفت دفع الجيل الجديد، الذي تربى في أحضان الثورة، إلى تحمل المسؤولية على امتداد أكثر من خمسة عقود من الزمن.
ومع حلول عقد التسعينات، أقدم أبو ماهر على التخلي عن جميع مواقعه في الجبهة الشعبية، ليفسح في المجال أمام الجيل الجديد، الذي نما وتطور، خلال المسيرة ليأخذ دوره.. غير أن الرجل لم يتوقف عن العمل، بل تابع القيام بواجباته الوطنية التي شملت ميادين العمل السياسي والقومي والجماهيري. فضلا عن النهوض بمهمة الكتابة عن التجربة الطويلة في حقلي النضال الوطني والقومي.
وأرجو أن يكون قد وفق في مسعاه ومبتغاه
جورج حبش
دمشق 6/3/2003
|
|
|