أحمد اليماني - بقلم: صلاح الدباغ
ولد الأستاذ أحمد اليماني في سحماتا من الجليل الأعلى عام 1924، وبعد انتهاء دراسته الثانوية التحق في الكلية العربية في القدس لمدة سنتين، وكان من بين رفقائه في الدراسة في تلك الفترة أستاذنا الدكتور محمد يوسف نجم.
لم تتح الظروف، واعتقدها ظروفـًا مادية، للأخ أبي ماهر أن يكمل دراسته في الكلية العربية، وبدأ سيرة نضاله في فلسطين عبر جمعية العمال العربية التي أسسها المرحوم سامي طه الذي اغتالته يد الغدر أيام الانتداب.
عام 1948، لم يترك فلسطين بل بقي فيها، وضاق الاحتلال الإسرائيلي بنشاطه ذرعًا فاعتقله وسجنه. وفي أوائل عام 1949، أبعدته قوات الاحتلال إلى الحدود اللبنانية بالقوة منذرة إياه بأنه إذا نظر وراءه، فإطلاق الرصاص هو نصيبه. فسار إلى بنت جبيل سائلا عن أهله، فقيل له أنهم في طرابلس فذهب إليهم. عمل في عدد من المدارس كمدرس وناظر ومدير، والكثير من تلامذته لا يزالون يذكرون كيف أنه كان يجمعهم كل صباح، وقبل بدء الصفوف، لينشدوا قصائد تمجد فلسطين والعمل على تحريرها.
وبسبب نشاطه هذا، كان نزيلا شبه دائم للسجون اللبنانية، التي كانت تذيقه أيام المكتب الثاني ضروبَا من العذاب لا تحتمل، وأنا أذكر أنني زرته بعيد خروجه من السجن آنذاك فكدت أن لا أعرفه.
وبعد قيام منظمة التحرير الفلسطينية مثل الأستاذ أحمد اليماني الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في المجالس الوطنية الفلسطينية المتعاقبة وكان عضوًا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير عدة مرات.
* * *
ماذا تعني لنا سيرة أبو ماهر اليماني؟
إن أبا ماهر في عمله العام وحياته الشخصية مثال وقدوة.
فهو قد جمع بين الصلابة والجدية البالغة حد الصرامة فيما يتصل بعمله النضالي، وبين البساطة المتناهية في سيرة حياته وعمله، متعففـًا مترفعًا عن كل المظاهر والمغانم وزاهدًا فيها. ولئن كان صحيحًا أن المال والبنين هما زينة الحياة، إلا أنه من الصحيح كذلك أن المال والبنون هما زينة الحياة الدنيا.
ومن ذاب في حب فلسطين وجرت فلسطين في عروقه، فإنه ينأى بنفسه عن الحياة الدنيا وزينتها.
ففي الوقت الذي أصبح العمل السياسي العربي عامة والفلسطيني خاصة، مجالاً للكسب والارتزاق وللتبدل حسب مقتضيات الحال والمصلحة، بقي أبو ماهر نظيفـًا صلبًا عنيدَا لا يتحول.
بقي كما كان لم يتغير فالعمل السياسي في عرفه هو تضحية ورسالة. ولذلك، دفع أبو ماهر أبناه للتضحية. فعندما أرسل أحد أخوته إلى أثينا للقيام بعملية فدائية، أعطاه تذكرة سفر ذهاب دون إياب. ولما سأله أخوه عن سبب ذلك، أجابه بأنه قد أرسله للاستشهاد فلماذا تذكرة الإياب؟
بقي أبو ماهر على خطته ومنهجه وأخذ نفسه ومن حوله بالصرامة التي يستوجبها العمل العام سواء كان عضوًا مناضلاً في حركة القوميين العرب أو عضوًا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير.
* * *
ابتعد بنفسه عن كل المظاهر المشينة التي تفشت لدى الكثيرين ممن تولوا المناصب فتحولوا من مناضلين إلى مستفيدين ومتبجحين.
بقي كما هو مناضلاً صارما بحقه وبحق من حوله، بسيطـًا في كل تصرفاته، متصفـًا دومًا بالتواضع الجم، والتهذيب الآسر، واللهفة الدائمة لمعارفه وأصدقائه الكثر.
وأحوال الزمان عليه شتى وحاله واحد في كل حال
* * *
ينتمي أبو ماهر اليماني إلى ذلك الجيل الذي عاصر نكبة فلسطين والذي تحمل آلامًا تفوق طاقة التحمل، فتركت في هذا الجيل جراحًا لا تندمل، كما تركت كدمات لم يستطيع الزمان أن يمحوها.
ومن هنا نرى مسحة الكآبة والحزن والتجهم التي ترتسم بين الفينة والفينة على محيا أبي ماهر.
يذكرني بهذه الكآبة ببعض من أبناء جيل النكبة كالأخ الصديق الأستاذ رفعت النمر. ولطالما اختلفت مع كل منهما وكليهما حول ذلك، فلا شيء، في عرفي، يمنع المناضل من الابتسام والمرح الذي يدفعه إلى العمل، ويعكس ثقته بالنصر وإن طال انتظاره.
* * *
أيها الأصدقاء الأعزاء،
لطالما تساءلت مع غيري، ونحن نرى حالة الانهيار السياسي للأمة العربية، هذا الانهيار الذي يبدو وكأنه بلا قرار أو نهاية، لطالما تساءلت:
هل أننا كشعب عربي نستحق هذا الانهيار بمعنى أنه كما نكون، يكون أولياء الأمر علينا؟
وكل ما كان اليأس يلامس نفسي أو يحاول أن يأخذ حيزًا في تفكيري، تنتصب شخصية أبي ماهر في المخيلة، كما تنتصب قوافل المناضلين وأهل الفداء في فلسطين، فتبعث في نفسي الأمل وتطرد كل يأس.
* * *
وبعد،
فإننا جميعًا يا أبا ماهر نحييك بعيدك، لما تمثل من قدوة ومثال في الصلابة والعفة والتواضع والبساطة.
ومن حقنا عليك، لا بل من حق الخالق عليك أن تبتسم، ابتسامة الحبور والرضا الكامل لما أعطاه ربك وخصك به دون غيرك من خصائص ومزايا عزت عند الكثيرين، ليس من أبناء جيلك فحسب بل ومن بين الأجيال جميعًا.
المصدر: الجزء الخامس من الكتاب.
حيفا، 13/10/2010
|
|
|