|
|
وليد قدورة
جواز سفر
... بعد غياب شهور عدت إلى ما اعتبره بلدي الثاني حاملاً جواز سفر أمريكي، ليس نتيجة لوساطة، ولم أدفع مبلغاً من المال ولم يطلب مني ثمناً معنوياً أو سياسياً مقابل ذلك. إنه System كما يقال هناك. أبنائي منحوني ذلك نتيجة إقامتهم، ودفعهم الضرائب المستحقة، وتقيدهم بالقانون تمَّت الأمور بسلاسة مفرطة دون إذلال ودون أي إحساس من جانبي آن عليَّ ديناً ينبغي أن أسدده لاحقاً، وبدأت، فجأة، أعامل في الدوائر وأماكن الخدمات العامة. باعتباري مواطناً أصيلاً، لا مستجداً طارئاً، عليه أن يقدم المبررات، والأسباب، والكيفية التي مكنتني من الحصول على جنسية الدولة العظمى في العالم.
* * * *
طوال عقود من الزمن كنت مستنكفاً ومتردداً من فعل ذلك. وكانت ثقافتي القديمة السارية في عروقي تجعلني رافضاً الإقدام على هكذا خطوة، رغم أني - كفلسطيني - لا أحمل جواز سفر، بل وثيقة من الدولة المضيفة، يجري تقليبها في مطارات العالم ومنافذ الحدود، والتشكيك بقيمتها وجدواها. وأحياناً إعادتي، أو احتجازي، باعتبار هذه الوثيقة، هي نصف جواز، ونصف بطاقة هوية، وكيف لمن لا يكون له دولة أن يكون له جواز سفر من دولة أخرى؟
* * * *
ها أنا، بجواز سفر جديد، يمكنني أن أدخل كل بلدان العالم، دون تأشيرة دخول في غالب الأحيان، أحظى بتقدير رجال الأمن وحماية سفارة دولة كبرى يمكن أن تبعث بمندوب عنها عندما أتعرض لأي مضايقة، أو أكون في حضور أي استجواب عن ماهيتي وكوني مشتبهاً به لأن أصولي التي جرى الاستفسار عنها والتدقيق فيها تنبئ بأن لا وطن لي، وأنني كائن "مخترع" كما صرح أحد المرشحين للرئاسة الأميركية.
* * * *
متجهماً، حزيناً، هكذا أعتادت أن تراني الفتاة الشقراء التي تقوم بخدمة الزبائن في أحد المقاهي في ولاية اندياناً، لست شاباً صغيراً لتتحرش بي، وليس لدى ما أقدمه لامرأة في هذا العمر المتقدم، ولكنها، يومياً، تراني عابساً، بينما أتناول قهوتي صباح كل نهار هناك، وربما أثار ذلك فضولها، فتجرأت على سؤالي ذات يوم: "حجم الهموم بادٍ على تجاعيد وجهك، ماذا يكسب الإنسان، لو ربح العالم وخسر نفسه!؟.. وأردفت قائلة، هذه العبارة للسيد المسيح عليه السلام، انتظرت إجابتي، بينما كانت واقفة أمامي تناولني قهوتي، لم استغرق كثيراً في التفكير لاستدل على الجواب، وأقول لها أنني عربي، فلسطيني، من الشرق، أي أنها ثلاثة أحمال مضاعفة.
عادت إليَّ بعد انتهاء خدمتها، قالت أنها تدرس العلوم السياسية في إحدى الجامعات القريبة، وأنها تعرف عنَّا الكثير، أشارت بيدها إلى مجموعة: خلف حول إحدى الطاولات في المقاهي. قالت أن هؤلاء ينحدرون من الهنود الحمر الذين جرى إفناء قبائلهم ودوس حضارتهم، وقالت أيضاً، ألا تلاحظ كيف يقهقهون ويضحكون، ويتبادلون النكات، الحياة يا سيدي، لا تستحق أن نستخف بها أو نغضب منها، ولا أن نقصي ابتسامتنا عن وجوهنا" كانت موعظة صباحية جميلة من صبية غضة إلى رجل في خريف العمر.
* * * *
يملك الإنسان قلباً واحداً حتى لو حمل اسمين، هوية خاصة لو كان هناك تعريفين له. أحمل قلباً واحد، حتى لو كان معي جوازي سفر، لا أتباهي إلا بجوهري وبجيناتي التي توارثتها، كل العالم أصبح قرية صغيرة، العبور فيه من قارة إلى أخرى يتم خلال ساعات، سأخبئ الجواز الجديد في حقيبتي العتيقة، فقد أحتاجه عندما تتعاظم المصائب.
وليـد قـدورة
صيدا - سحماتا
27/1/2012
العودة الى صفحة "فن, تراث وحكايات"
|