|
|
وليد قدورة
امرأة صبورة جداً
عشرات الأمتار بعيداً عن "البيت الأبيض" في واشنطن تقيم السيدة بيشوتو . ليس للسيدة بيتاً تأوي إليه ، إنها ، على رصيف الشارع الممتد مقابل بيت الرئاسة الأميركية ، ملقاةً في كوخ بلاستيكي صغير ، منهكة في ترتيب معداتها الصغيرة ، و مقتنياتها الضئيلة و هي كل حيلتها في الدنيا : ملصقات ، أوراق ، كتب ، صور ، و شعارات مناهضة للحرب ، و دعوات إلى سيادة السلام و العدل ، و وضع حل للجشع و إفقار الشعوب.
منذ بداية أغسطس عام 1981 ، أي منذ أكثر من ثلاثين عاماً ، و السيدة بيشوتو تفترش الأرض هنا ، معلنة اعتصاماً فردياً سلمياً هدفه مناصرة الأمم المغلوب على أمرها ، و حين حزمت أمرها لم يكن عمرها يتجاوز العشرين عاماً ، و هاجرت من على بعد آلاف الأميال من وسط إسبانيا إلى الولايات المتحدة الأميركية ، لكنها الآن و قد تجاوزت الخمسين سنة ماتزال رابطة في المكان ذاته رغم تعرضها لشتى صنوف المضايقات و الإهمال ، فإلى جانب تقلب الأجواء من صيف و شتاء ، و حر و برد ، و ثلج يكلل كوخها الصغير ، فإن جسدها الصغير الذي لا يتجاوز الخمسة أقدام طولاً ، يبدو قادراً على احتمال كل ذلك بفضل قلب عامر بالأيمان ، عابق بالحب للإنسانية جمعاء ، ماقتاً للظلم بكافة أشكاله .
فاجأني مشهد هذه المرأة العجيبة ، على مقربة من المنتزه الواسع الذي يؤمه السياح من كافة البلدان لرؤية "البيت الأبيض" بدت مثل إبرة في كومة قش ، أثارت انتباهي ، حين رأيت أمامها لوحةً خشبية صغيرة مكتوب عليها "دولة فلسطين " و مرسوم عليها العلم العربي ، بينما كانت تكنس الأرض من أوراق الأشجار المتطايرة حولها و التي تكاد تسد مدخل خيمتها الصغيرة التي أعادتني عقوداً إلى الوراء .
جملٌ قليلة تبادلتها معها ، عرفتها بأصولي فصرخت "قلبي معكم" "أحبكم" فجعلت كلماتها الدمع يطفر من عيني ، و أغراني ذلك بأن أجالسها لدقائق ، بينما يمر قربها الزوار ، بين مشفقٍ على حالها ، كمايبدو من نظراتهم ، أو مستنكراً ما تفعل ، أو متعاطف معها عبر تقديم كيسٍ صغير من الفستق أو قطعة من الحلوى أو رغيفاً من الخبز.
" الحياة هي أن تعمل لما نؤمن به " ، هكذا لخصت لي الأمر عن سر صمودها و صبرها ، رغم أنها شاهدت بأم عينها العشرات ممن لا يملكون بيوتاً ، يتجمدون حتى الموت في المنتزه المحاذي لخيمتها ، أما أصدقاؤها المخلصون فإنهم السناجب الذين يتقاسمون معها لقمة العيش القليلة التي تتوفر لديها أحياناً.
السيدة بيشوتو ذات عينين سوداوين حادتين ، و بشرة خلاسية ، بالكاد تستطيع قدماها الهزيلتان أن تطأ الأرض ، تلبس دوماً ملابس رياضية و تنتعل حذاء مهترئاً ، و تتدثر بحرامٍ صوفي مليء بالثقوب تلقي على مسامع كل من يود أن يصغي إليها محاضرة عن مساوئ و مخاطر امتلاك الأسلحة النووية ، و عن حق الفلسطينيين في أن يكون لهم أرضاً ، و عن التمييز بين اليهودية و الصهيونية ، و بين الجشع و النهب و التواصل بين الشعوب.
السيدة ، الضئيلة الجسم ، المرابطة منذ ثلاثين عاماً، قارئة جيدة، محدثة بارعة، مؤمنة حقاً بما تفعل، يمر بها كثيرون، فلا يعيرونها انتباهاً ، و لكنها تشكل علامة فارقة في مدينة تعج بالمتاحف و العمارات الفخمة ، و الكنائس القديمة ، و الجوامع المتعددة. القصة حقيقة ، غير مستمدة من الخيال.
وليـد قـدورة
صيدا - سحماتا
2/12/2011
العودة الى صفحة "فن, تراث وحكايات"
|