|
|
وليد قدورة
سيرة صبي صغير
كان عليّ أن أحدق جيداً بهذا الكائن الصغير الملفوف بعلم بلاده ، المسجى بذلك النعش الخشبي المتهالك ، المرفوع فوق أذرع الرجال ، و الذي يبدو على ال" يوتيوب" صاعداً عالياً ، أكبر من جميع الهامات المشاركة بحمله. كان عليّ أن أتأكد أنه ليس أرنباً ، ليس جرواً صغيراً و لا هراً حديث الولادة . إنه ولد ، صبي ، طفل صغير ، صدره مشبع بالثقوب التي تنز احمراراُ قانياً ، وجهه الملائكي الصغير تائه في ثنايا الكدمات ، جسده الندي ، الطري ، الغض ، مستلقٍ على النعش مثل خصلةٍ انتزعت من شجرة ريحان.
إسم الطفل و ما كنّي به ليس مهماً ، فقد طمره الإعلام الرسمي ، و تاجر بحكايته فئات لا صلة لها بطهارة روحه ، و نقاء سريرته ، و غضبه الصبياني المشروع ، و مع ذلك فإنه سينضم إلى القائمة ، القائمة الطويلة من الأطفال ، الذين تمّ اصطيادهم أو اقتناصهم في أحياء العواصم الغاضبة ، أو تمّ انتزاعهم من أحضان أمهاتهم ، ليوضعوا في أقفاصٍ يتسلى كبار القامة بتعذيبهم ، و إطفاء السجائر في أجسادهم ، و التلذذ برؤية أرواحهم تتهادى رويداً.. رويداً ببطء نحو ملكوت السماء.
قلبٌ ميّت دون شك هو الذي أذن ، يسمح ، يتغاضى ، يصمت ، يغمض عيناه ، عن جرائم من هذا النوع في عصر تعقد فيه ندوات حوار ، و تبحث فيه أنجح الحلول الكفيلة بمعالجة ظاهرة أطفال الشوارع ، و استخدام الأطفال أدوات في الحروب ، أو تشغيل الأطفال بالسخرة ، و بيع الأطفال في بعض جهات الأرض.
الصبي المقتول ، لم يكن يحمل بندقية ، و لا يعرف شيئاً عن أنواع القنابل و المتفجرات ، و ليس في سيرته أنه اصطاد عصفوراً ، أو ذبح طيراً . الصبي ، اعتاد أن يذهب إلى مدرسته صباح كل نهار ، و أن يشارك أترابه في ترديد النشيد الوطني ، و أن يرفع يده بتحية علم بلاده ، و كان يفعل ذلك ببراءة و قناعة تغلغلتا إلى كل مسامه ، و امتصتها شرايينه ، و أودعها في قلبه الذي توقف عن النبض عندما أجهز عليه أبناء جلدته ، الذين ائتمنهم على مستقبله ، فعجلوا بوصوله إلى خط النهاية.
لا يجدي الاعتذار بعد ما حدث ، هل يعيد الاعتذار ميّتاً من قبره ؟ لا تنفع لجان التحقيق أمام هول ما حصل ، فلجان كهذه لن تعيد الولد إلى حضن أمه التي انتزع منها كبدها و لن يعود كل شيء إلى طبيعته بعد أن قذف الأطفال في أتون وليمة الشواء ، الأسبوعية ، بل اليومية ، التي استسهل أولي الأمر إشعال لهيبها.
ذنب ، هذا الطفل ، أن صوته قد علا ، و أنه شارك بضجيج لا يحلو للنافذ أن يسمعه ، و أنه ساهم بصنع ضوضاء لا يليق بالصغار أن يحدثوها خوفاً على صحة رعاتهم ، فكان أن دفع غالياً ثمن صراخه ، و لكنه ، هو المرفوع على النعش الصغير ، المتحلق عالياً في فضاء تلك العاصمة ، سيظل خالد الذكرى ، تضاء له الشموع في البيوت الساكنة قسراً في قلب المدن المفجوعة بأبنائها ، و سيضاف إلى قائمة عراة الصدور المسالمين الذي يلهبون نشيد بلادهم الوطني كل صباح ، و لا يملكون سوى إصواتهم.
وليـد قـدورة
صيدا - سحماتا
17/6/2011
العودة الى صفحة "فن, تراث وحكايات"
|