|
|
وليد قدورة
كن إنساناً ...
وحيداً ، أبحر إلى شواطئ غزة . وحده ، على ظهر مركبٍ خشبي صغير ، على متنه بضعة صناديق من الأدوية يحملها لأطفال مدينة الأنقاض . ما كان يحمل بندقية ، و لا جهاز تنصت ، و لا مسدساً كاتماً للصوت . بضعة كتب ، إضافة إلى عبوات الأدوية ، يافطة بيضاء يتلاعب بها الريح معلقة فوق زورق صغير ، و بطاقة من جمعية تضامن أوروبية مع الشعب الفلسطيني ، لدى اعتراضه في عرض البحر ، من قبل الغزاة لم يجدوا حجة لسجنه ، و هو المتسلح بإنسانيته و اندفاعه ، فتركوه مع مركبه ضائعاً وسط الأمواج ، لكنه كان مصراً على المضي قدماً في رحلته ، إلى شواطئ فلسطين التي كان يصرخ بالجنود عالياً ، قائلاً : "فلسطين حرة " .
فيتوريو أوريغوني ، كان يملك كل مقوّمات الحياة الشخصية الكريمة قبل أن يتخذ قراره ، كان لديه وطناً أصلياً معترفاً بعظمته قديماً و حديثاً ، كان لديه بيت صغير يأوي إليه دون أو يجرؤ أحد على طرده منه ، و كان لديه جواز سفر يستطيع أن ينفذ به إلى كل المطارات و الموانئ دون عوائق ، و ربما كانت لديه دراجة يستطيع أن يتجول بها كل شوارع روما و إيطاليا و أوروبا دون أن يمسه أحد.
كابوس غزة ، المأسورة بالحصار ، و المزنرة بحزام من نار ليل نهار ، المكتظة بشيبها و شبانها ، و أطفالها و نسائها . هذا الكابوس ، لاحقه ، فانحاز إلى نداء ضميره الإنساني الحي ، و قرر أن تكون بلده الجديد ، هل الأوطان هي الأماكن التي نولد بها ، أو تنشأ غلى أرضها أم تلك التي تختار أن تصبح قضيتنا و موضوعنا و قصة حياتنا و موتنا ؟
أوريغوني لم يكن مكترثاً بالأيديولوجيا التي تخيّم على فضاء غزة ، و لم يكن معنياً أو مهتماً أن يعرف الكثير عن أسباب و مبررات انقسام الفلسطينيين ، و فوق هذا و ذاك ، لم يكن متيّماً إلّا برؤية وجوه الأطفال الصغار الذين رأى بقايا أشلائهم تنتزع من تحت الركام بعد كل جولة من جولات القصف الإسرائيلي ، متسائلاً عما يمكن أن يقدمه لهم ، أو يهبهم ، و هو الشاب المعافى في مقتبل العمر ، الذي أقام في أحد زوايا غزة ، خادماً أميناً ، دون أجر ، لشعبها .
هذا القتل الوحشي مدان ، هذه الطريقة التي يتباهى بها فريق بعرض ضحاياه على الشاشات الصغيرة مقطوعي الرؤوس ، أو مغمضي الأعين ، طريقة مهينة لا تمت لأي شريعة سماوية بصلة . هذا الحقد ، و هذه الكراهية ، لأي "آخر" بغض النظر عن مواقفه العادلة ، نابع من اجتهادات حمقاء تجلب الكوارث على مصير الأمم و الشعوب . ما هكذا يكافأ الأصدقاء ، و لا يمكن تفسير هذا الجحود و نكران الجميل ، إلا بكونه هدية مجانية مقدمة للأعداء الحقيقيين ، و دعوة لإفراغ الساحة العالمية من أي نصير أو صديق ، أو متضامن . وحشي ، أعمى ، هذا القتل ، الذي تساوى فيه الجلّادون مع قطاع الطرق و المهووسون بالقتل .
وليـد قـدورة
صيدا - سحماتا
30/4/2011
العودة الى صفحة "فن, تراث وحكايات"
|