|
|
وليد قدورة
الديكتاتور
الديكتاتور يحب شعبه على طريقته . ما يفعله ، في آخر أيامه ليس إلّا مزاحاً ثقيلاً مع رعيته . فهو ، بالكاد ، يفهم الرسائل التي يبعثون بها إليه ، و هو من على سدة الرئاسة ، يرى في هتافاتهم صرخات إعجاب بشخصه ، و في قبضاتهم المرتفعة قبلات مبثوثة عبر الفضاء الضيّق إليه ، و في أغانيهم و أهازيجهم احتفاءً بديمومة حكمه الأبدي و استمراره اللانهائي . ليس هناك ما يغضب الديكتاتور ، و لا ما يثير حنقه ، فالمقربون الملتصقون به ، يهمسون إليه ، أن كل هذه الجموع التي يشاهدها من وراء زجاج مضاد للرصاص إنما تدعو له بطول البقاء ، و أن هذه الجماهير يصعب عليها ، و يعزً ، مفارقته ، أو الابتعاد عنه لساعات ، و أن هذه الحشود التي تضيّق الخناق على قصره إنما تودّ احتضانه و حمايته من طعنات الأعداء و غدر الأصدقاء.
لا عضلة ترتجف في وجه الديكتاتور ، و لا يهتز بدنه ، أو تنقبض ملامحه ، بينما حرسه يرقصون رقصة الموت مع من أوصلوه إلى القمة ، و لا يثير دهشته اعتلاء أطفال أكتاف أمهاتهم ، و أبائهم ، و هم يشيرون إليه ، و يجرحون حناجرهم التي تلهج بسقوطه . فقد أحاط بيته بعازلٍ للصوت يردع عنه الضجيج ، و يوفّر له الهدوء الذي يساعد على التفكير بروية و اتخاذ القرارات الحاسمة ، أما الصبية ، الذين يسقطون صرعى برصاص المحيطين به ، فثمة مبرر لاختفائهم ، إذ كيف يدع الأهالي أبناءهم يفلتون في الشوارع دون رقيب أو حسيب ، و ليس هناك وقت للتفكير فيما يحلّ بأولاد الشوارع ، و كيف ينتهون ، أما النسوة الغاضبات ، فإن رجالهم فقدوا السيطرة عليهن ، و لم يعودوا قادرين على إغلاق مزاليج الأبواب عليهن ، و منذ متى تستطيع المرأة أن تعلن غضبها ، أو أن تشارك الرجل تمرده و ثورته ؟
اعتاد الديكتاتور أن يراقب شوراع مدينته من وراء الزجاج الملوّن ، معه ، تصبح الألوان كلها سواسية ، هذه البقع الحمراء التي تلطخ الإسفلت ، ليست دماً ، كما يقول سائقه ، بل هي تعبيد حديث للطرق ، و هذه الجثث المرمية هنا و هناك ، إنما هي لمتسكعين يلذ لهم الإرتماء على جنبات الأرصفة ، و هذه الأشجار المحروقة سطا عليها لصوص محترفون فسلبوها زهورها الربيعية و أوراقها الخضراء الغضة ، و هذه اليافطات المعلقة هنا و هناك ، إنما هي إعلانات سياحية عن مدى ازدهار البلاد ، و سيادة الطمأنينة في ربوعها.
هو ، الديكتاتور ، الذي حوّلته نرجسيته إلى كائن يعتقد أنه إذا تخلّى عن كرسيه ، فإن العالم كله قد انهار حوله ، و هو المخلوق الذي يتهيأ له أنه مركز العالم ، الذي إذا اهتز فإن الجهات الأربعة ستفقد توازنها بعده ، و لكنه ، بخبرته الطويلة ، و حين يسرب إليه أحد أتباعه المخلصين أن شعبه يحتاج إلى عطفه و شفقته ليس إلّا ، يبدأ بابتداع الحلول ، فيتأنى في إصدار قراراته ، و يقدمها جرعة جرعة ، قاذفاً للناس الفتات ، باحثاً عن خلود شخصه ، و ملكوت بقائه ، غيرمكترث بكل هذه الهياكل التي يتطلع إليها من وراء زجاج جعله أعمى البصيرة . " اصبروا علي قليلاً" يقول لهم ، و لكن "الصبر" لم يجعل الخبز يهبط إلينا من السماء ، و لم يرشق رئاتنا بنسيم الحرية، يجيبونه . " سنوات أخرى قليلة و سآتي لكم بالمعجزات" . يا سيدي زمن المعجزات انتهى ، نشتهي أن نتساوى مع الأمم الأخرى ، و أن نستعيد زمننا الذهبي ، يردّون عليه ، لكنه و هو الذي احترف المراوغة و الاحتيال . يطالبهم بأن يمنحوه مهلة للبدء من جديد ، كم من الوقت على رعية الديكتاتور أن تنتظر حتى يقتنع الرجل أن ثمة مكاناً تحت الشمس لآخرين ؟!
وليـد قـدورة
صيدا - سحماتا
15/4/2011
العودة الى صفحة "فن, تراث وحكايات"
|