|
|
وليد قدورة
ياه .. لقرمزية الفراولة
آه .. لعبير الزهور
الزمان : يوم الأحد الماضي
المكان : معبر أبو سالم / غزة
الحمولة : ورد و فراولة
شاحنتان تتهاديان بتثاقل بعد أن خضعتا للمجسات و الروبوتات و التفتيش اليدوي . للشاحنتين قصة ، ليس البشر وحدهم من يصنعون الروايات . الحديد ، البترول ، المطاط ، يتدخل بغرائبية مدهشة في صناعة الرواية ، هل قرأ أحدكم حكاية حديثة لا يقود أبطالها سيارات ، أو بخفي بعض منهم مسدسات و متفجرات في أحد مخابئها ؟ الشاحنتان المهترئتان تحملان زهوراً و فراولة عكس ما هو سائد و ضد التيار . بعد لأي حصلت هاتان على تصريح إسرائيلي لا يمنح عادة إلا ل v.i.p ، و لا يوهب إلا لمن علا شأنه ، و لمن تكون بطاقته ممهورة بنجمة سداسية ، و لكن الشاحنتين العجوزين انتزعتا بضغط من جهاتٍ دولية سماحاً بأن تعبرا ، في وضح النهار ، دون أي عوائق ، و تغادران البقعة المحاصرة منذ سنوات على وجه الكرة الأرضية ، و المساحة التي أصبحت إسماً منسياً عند كثيرين .
فراولة و زهور ، توت أرضي و ورود ، ورد يشق عبيره الصدر من على بعد أمتار ، تطغى على الرائحة الكريهة للفوسفور الأبيض الذي مازالت شظاياه تتناثر و تتطاير على ضفاف أزقة و حقول غزة . فراولة ، لا يتفوق على احمرارها إلا لون الدم القاني الذي سال على وجوه الأطفال و الأبرياء من سكان هذه الغابة البشرية المكتظة ممن مضوا و ملّوا الانتظار .
الفراولة و الورد هما "المخزون" الثمين الذي يطوقه بأصابعهم أهل القطاع ، و ترويه أباريقهم الفخارية كل صباح ، لا ينخدعن أحدكم ، نساء القطاع لا يصنعن قلائد من الياسمين يعلقنها في رقابهن ، و لا يجدن رش السكر الناعم ، أو "الكريما" الشهية على حبّات الفراولة ، إنهن يشاركن في الزراعة ، و سقي الأتلام المستوية فيما تبقى من أرض لم تنزل عليها لعنة "اليورانيوم المنضد" و لم تدسها أقدام الغزاة.
350 طناً من التوت الأرضي ، و 30 مليون زهرة موضبة بعناية ، مرصوصة رصاً بدقة في شاحنتين قديمتين تجران أنفسها جراً ، بينما تراقبها عشرات العيون العدوة خلسة بحذر و قلق خوفاً منها ، لا على محتوياتها . يُسمح لها أخيراً بالمغادرة بعد وساطات هائلة أفلحت في كسر الحصار ، الوسطاء مبتهجون جداً بنجاح ، وساطتهم ، يمنون النفس ، بأن تصل الحمولة طازجة ، و الورود نضرة ، حتى يتمكن الأزواج من إهدائها لزوجاتهم أو عشيقاتهم ، و العشاق إلى حبيباتهم ، لنقل إلى بلدان تدرك معنى و مضمون و رمز الوردة البيضاء و جفاء الصفراء ، و غيرة الحمراء ، و أسماؤهم المتعددة : " لا تفارقني أبداً " و "عانقني بلطف" أو " ابتعد عني".
أهل فلسطين يصدرون نبتة الحب التي توحّد كل البشر و يكتفون بتطريز عناوينها على أثوابهم و مخداتهم و وشراشفهم ، يستعذبون شم عبقها ، و يمعنون النظر في لونها ، و يتخيلون نكهة الثمار عن بعد ،ليقنعوا أخيراً بأحلامهم الوديعة ، البسيطة ، المتواصفة التي تأخذهم إلى دنيا الخيال ، و تجذبهم بعيداً عن الأرض الرعناء.
لكن الوسطاء ، المتحضرون ، اللطفاء ، مصدومون بعض الشيء ، لأن كل الألاعيب القانونية و الحيل التجارية ، و النبرة الحادة التي استعملوها مع الكيان الصهيوني لم تثمر في النهاية إلّاعن عبور شاحنتين هرمتين تحملان ألواناً مهيجة إلى بلدانهم ، فيما تعسرت محاولاتهم اليائسة لإضافة شحنتين ، واحدة من الطماطم الصغيرة التي تزين موائد النخبة ، و تعطي رونقاً رائعاً للسفرة ، و أخرى من الفلفل الحلو الأخضر الذي يبهج الذائقة ، ليشكلا خلفية للوحة السيريالية الدرامية ، " لا طماطم صغيرة .. لا فلفل أخضر حلو" ، هكذا صرخ الإسرائيلي بعناد ، دعوا الأخضر لأصحابه و اكتفوا بالأحمر ، صمت الوسطاء ، انكسر الحصار أخيراً ، هكذا أعلن المذيع.
وليـد قـدورة
صيدا - سحماتا
4/12/2010
العودة الى صفحة "فن, تراث وحكايات"
|