|
|
وليد قدورة
غسان كنفاني..وجه آخر
إذن، لم يكن غسان كنفاني، يكتب باسمه الصريح فقط، بل كان يستخدم أقنعة شتى و أسماء أخرى واضعاً نصب عينيه باستمرار، أن تصب كتاباته، و مسمياتها، أي ثوب ارتدت، الهدف الذي سعى إليه : التعبير المبدع عن حقيقة الأزمة المستفحلة للقضية الفلسطينية و العربية برمتها .
"أبو فايز" حيناً، " غينكاف" أحياناً أخرى، إضافة إلى مقال أسبوعي باسم "فارس فارس" هذه هي الشيفرة التي صنعها غسان ليطل بها عبر زواياه الخاصة في أكثر من جريدة بيروتية : ملحق "الأنوار" الأسبوعي، مجلة "الصياد"، جريدة المحرر و ملحقها "فلسطيننا" إلى أن استقر به المقام رئيساً لتحرير مجلة "الهدف" حتى لحظة اغتياله، و لا شك أن عبقرية غسان كنفاني أوحت إليه استخدام هذه الألقاب سعياً إلى التأثير على رهطٍ واسعٍ من القراء ذوي الثقافات المتفاوتة و جذبهم للإنحياز إلى قناعاته الثورية التي لا لبس فيها و لا غموض، و تعبيراً عن طاقات هائلة كان يختزنها بداخله، و غزارة في الإنتاج في حقول عدة ما كان ليتسع لها شكل واحدٌ من أشكال الإبداع الفردي.
برز غسان في الستينات، حين كان الحراك الثوري العربي في ذروة تأججه، و كان الاصطفاف واضح المعالم بين الأفراد و الجماعات، و الولاءات السياسية جلية كعين الشمس، و لم يكن الخوف من قبضة رقابة، و لا الخشية من اعتقال ما جعله يلجأ إلى أسماء أخرى أحياناً، إلا رغبته الفردية الخاصة كمبدع أن يتحرر من الارتهان بأي قيدٍ عقائدي عندما يتناول أموراً تخص النقد الأدبي، و الكتابة الساخرة، و نثر الدبابيس و التعليقات القاسية التي تفرج عن همه الشخصي، مع الالتزام التلقائي الفطري المفرط بانتمائه العربي ووجهه الفلسطيني، و هذه قضية طالما عاشها و عاني منها عمالقة مبدعون طالت قاماتهم أكثر من المتحلقين حولهم، فبدوا مؤسسة بذاتها، رغم مرجعيتهم التاريخية، و جذورهم القديمة.
"فارس فارس" عند غسان، كان بستانه الشخصي الذي يلهو به و يعبث كما يشاء، و كان بوحه الذي يسر به إلى نفسه و يدفعه إلى المطبعة آخر الليل، دون الحصول على إذن من حسيب أو رقيب، و ارتبط إسم " فارس" بالكتابة الساخرة التي تفجّرت ينابيعها بعد هزيمة حزيران عام 1967، حيث بدا كل شيء معتماً، و كل أبواب الأمل موصدة بعدها، فكان "فارس" أحد النواقيس التي تدق مرة في الأسبوع، و لا لذرف الدموع و موت الأحلام القديمة، بل لتجعل القراء يهزأون بطريقة مضحكة ساخرة من أغلب القضايا التي تخنقهم و تحاصرهم، ربما كان ذلك يؤكد التواصل الثقافي و الشعبي العربي، حيث يلجأ الشعب المصري عادة إلى النكتة للتعليق على الكوارث و المصائب، و حيث استنجد رسام الكاريكاتير الراحل "ناجي العلي" بالنكتة المرة كما سماعا النقاد لمداواة جراح شعبه، فكانت شخصية "حنظلة" و رسوم "ناجي" الساخرة مرادفة لهذا الإيقاع.
يقول غسان : " إن فن السخرية هو أصعب فنون الكتابة على الإطلاق إذ المطلوب من الكاتب أن يقنع القارئ بالإضافة إلى جميع البنود المعروفة في الكتابة - بأن دمه خفيف- " و يضيف قائلاً : " السخرية ليست تنكيتاً ساذجاً على مظاهر الأشياء، إنها تشبه نوعاً من التحليل العميق."
و هكذا تحت إسم، "فارس فارس" تطرق غسان إلى مواضع شتى في الفن و الأدب و الثقافة و السياسة، و نقد بموضوعية و حزم و خفة دم كتباً هشة صدرت في تلك الحقبة، و فضح زيف موضوعات مطروحة لا صلة لها بالواقع المعاش آنذاك، محافظاً على الإطار الموضوعي و المبدئي لنقده دون غرقٍ في الإسفاف الشخصي و الشتائم الرخيصة.
وجه ضاحك لغسان، ظل عليه حتى لحظة استشهاده في 8 تموز 1972 حين اغتالته المخابرات الإسرائيلية فيما كان كتب مقاله الأخير الذي نشر بعد أسبوع، و وردت فيه مرات كثيرة عبارة ظل يرددها الإسرائيليون : " العربي الجيد هو فقط العربي الميت" .. ترى هل يتنبأ العباقرة بقرب نهايتهم ؟
وليـد قـدورة
صيدا - سحماتا
23/07/2010
العودة الى صفحة "فن, تراث وحكايات"
|