صفحة البداية
عن الجمعية
حق العودة
عن سحماتا
أخبار سحماتا
مواقف ونشاطات
شهادات وذكريات
مقالات و دراسات
أخبار منوعة
فن, تراث وحكايات
قوس قزح
من رياض الثقافة
والأدب
أفلام وأغاني
صور سحماتا
دنيا الأطفال
تعزيات
روابط مميزة
دفتر الزوار
اتصل بنا
English

وليد قدورة


ال"نورس" قاتلاً

أمامي شهادتان ، وثيقتان ، واحدة مرئية ، و أخرى مكتوبة ، لا مناص عندي من كتابة نصٍ في زمن جارح ، لا قدرة على الهروب بعيداً إلى الأمام للقبض على لحظة فرح و تقديمها للقارئ. أمامي شريط فيديو تبدو فيه راشيل كوري ، الفتاة الأمريكية الرقيقة النحيفة بشعرها الأشقر المنسدل على وجه دافق المحيا ، مبتسم ، فرح ، عاشق للحياة ، تلاعب أطفالاً ، تراقصهم ، تدربهم ، تعلمهم حركاتْ رياضية بسيطة تحمي أجسادهم الهزيلة من الأوبئة و الأمراض مستقبلاً . أمامي شريط تبدو فيه فتاة شقراء مقبلة على الدنيا ، تتحسس شعر صبية فلسطينيين حليقي الرؤوس ، يحومون حولها ، مثل أسراب من النحل ، و تقف وسطهم مثل طائر نورس أبيض يداعبهم بانتفاض جناحيه ، و هز ذيله ، و التحليق ببطء مخترقاً صفوفهم . أسمع أصوات ضحكاتهم البريئة ، و تعليقاتهم الساذجة ، أرى كيف تتألق السعادة على وجهها ، و تنفرج أساريرها لأنها ربما ، حين أدارت الظهر لبيتها قاصدة المكان وجدت تعويضاً لها في مساحةٍ صغيرة جداً تعج بزعيق الأطفال الذين لم يعودوا يملكون بيوتهم ، فأعطتهم راشيل من حنانها سياجاً من الحماية و الأمان ، لم يستطع العالم أن يوفرها لهم.

حتى هذه اللحظة ، و بعد مرور خمسة أعوام لم يستطع أبواها التعرف على وجه قاتل إبنتهم ، انتدبوا أكثر من محامٍ ، زاروا عشراتٍ من قاعات المحاكم ، دقوا أبواب عدة عواصم ، وقفوا على النصب المعمول لها حيث استشهدت ، ناجوا روحها ، و طالبوا بلجان التحقيق ، و لكن الكهلين ، العجوزين لم يحصلا إلّا على وعود جوفاء ، القتلة معروفون جيداً ، لكن وجه القاتل ، الفرد ، مازال متخفياً ، لم ينجحا لتوجيه السؤال الذي يحملانه ، المكتوب بكل لغات العالم : لماذا قتلت ابنتنا؟

الجريمة ليست لغزاً معقداً ، لم تحدث في الظلام بطلقة من كاتم للصوت ، أو بطعنة خنجر في الظهر ، فقد أجهز على الفتاة في وضح النهار ، حين اصطكت مخالب جنازير الجرافة الإسرائيلية بجسدها حين كانت تمد ذراعيها متوسلة سائق البلدوزر أن يتوقف عن هدم بيوت هؤلاء البؤساء ، و حين كانت تصرخ بملء صوتها ، متضرعة إلى الله أن يوقف هذا البطش اللاأخلاقي ، على مرأى من جموع كثيرة اقترفت الجريمة ، لكن شهادات الضحايا مطعون بصحتها و صدقها ، فكيف سيتوصل الأبوين العجوزين إلى الحقيقة الكاملة إذن ؟

أمامي شهادة موشي نسيم ، و هو جندي في الجيش الإسرائيلي ، و سائق جرافة ، يدلّع الإسرائيليون الجرافة ، فيسمونها -نورس- و هم كما لاحظنا يميلون إلى إطلاق أسماء شاعرية على أفعالهم الشنيعة ، ربما ليفقدوا الشعر عذوبته ، أو ليجملّوا بغضاءهم . موشي صديق قاتل راشيل ، تبرع أن يتحدث عن حرفته اليومية متباهياً : " عرض البلدوزر أكبر من الأزقة ، كان يكفي أن أمر به حتى تنهار الجدران و تدك المنازل" ، و لأن موشي لا يضيع وقته و يستغل كل ثانية لتأكيد ولاءه لدولته و مؤسسته العسكرية فإنه لا يتردد في كشف المستور " تدمير منزل يعني أنك تقضي على أمل أكثر من 59 شخصاً و لأجيال قادمة " و لأن ضميره قد مات تماماً في غمرة ما يبدأ به نهاره يستطرد قائلاً : "إذا كنت نادماً على شيء ، فهو أنني لم أستطع أن أدمر كل المخيم في ثلاثة أيام ، نفذت أمراً واحداً و هو التدمير " هل يتذكر موشي أبناءه ، أسرته ، أهله ، هل تصيبه صحوة الضمير ، أو يقظته أحياناً ، ينفي ذلك قائلاً : " كان يلزم ألا أظهر أي شفقة على الإطلاق ، لم يكن لدي وقت لإضاعته ، إن امرأة حاملاً تؤوي إرهابياً تجب تصفيتها ، كل المنظمات الإنسانية ، و منظمات حقوق الإنسان و الأمم المتحدة لا تروي إلا ترهات و سخافات .. لقد سوينا جزءاً من المخيم أرضاً ، و بفضلنا يستطيع سكان المخيم أن يلعبوا كرة القدم" تأملت ، و قرأت الشهادتين ، تذكرت الصبية ذات الحس الإنساني الصادق التي واراها تراب فلسطين ، تيقنت أن القضايا الشائكة حين يصبح لها أنصارها من كافة الجنسيات ، و الديانات ، و الأيديولوجيات ، فإنما ينفتح لها طريق حقيقي لحل عادل.



وليـد قـدورة
صيدا - سحماتا

17/06/2010



العودة الى صفحة "فن, تراث وحكايات"


® All Rights Reserved, ABNAA' SUHMATA Association
  Best experienced using MS Internet Explorer 6.0, Screen is optimised for viewing at 800 x 600