|
|
وليد قدورة
يالهذا البحر
أهذا هو البحر الذي خاض عبابه طارق بن زياد ، و أحرق سفنه قائلاً : " البحر من ورائكم و العدو أمامكم و ليس لكم والله إلا الصبر "؟ أهو ذاته الذي تهادت على سطحه آلاف السفن العربية كاسحة من يقف في وجهها ، مسجّلة أروع الانتصارات في - ذات الصواري- ناقلة إشعاع النور و الحضارة إلى الضفة الأخرى منه . حاملة على متنها خلاصة الثقافة الإنسانية التي تبث عبيرها و عبقها في جزر و مدنٍ كانت لا تزال تعيش تحت جحيم البطش والقسوة والاستبداد.
إنها الذاكرة القديمة التي تتقهقر أمام ما تفيض به الحقبة المعاصرة من ألم الرحيل و وجع الوداع ، في سجل تاريخي يصعب نسيانه . آلاف الزوارق التي تغص فيها موانىء حيفا و يافا وعكا ،فيلقي البشر فيها أجسادهم المنهكة دون أن يعرفوا إلى أي مرفأ ستأخذهم ، و على أي أرض سترميهم ، يتشبثون بالقوارب الصغيرة أملاً بالخلاص ، فتقذفهم هذه في عشرات المنافي، وتنسى الأم رضيعها ، و الابن أباه ، كأنه يوم الحشر ، فيما تمخر البحر نفسه عشرات البواخر الحديثة من الجهة الأخرى متقلة بغرباء ، متعددي الجنسيات، متكئين على إيقاظ أحلامٍ قديمة قادمين إلى أرض اللبن و العسل ، لإفناء شعبها و إلغاء معالمها.
إنه البحر نفسه ، الذي ضمنا بعد اجتياح بيروت ، و أدخلنا في تيه جديد لم نعد ندري كيف نخرج من ظلماته ، و هو ذاته الذي تحدث عنه محمود درويش في أحمد الزعتر ، وهو، هو الذي كنا أطفالاً نأنس إلى وشوشة أمواجه ، ونعوم على أطرافه.
كأنه لم يعد لنا ، كأنه لم يعد يتسع للجميع ، إما ظالماً أو مظلوماً ، إما جلاداً ، أو ضحية، أو يكون بركة للدم ، ما الذي يبرر قتل كائن بشري يحمل يافطة إنسانية ؟ كيف بدمٍ بارد ، و في مخالفة لكل الشرائع السماوية و القوانين الوضعية ينهال الرصاص على من يحملون دفء المشاعر الإنسانية ، و على الكتاب و المثقفين و الإعلاميين في عرض البحر، وهم لا يحملون إلّا ضمائرهم الحيّة ، و كلماتهم ، و قليلاً من الخبز و الأدوية ، والبيوت الخشبية ، و كراسي المعاقين لمن أمضوا ألف يوم في حصار .
هذه البقعة الصغيرة التي يحتشد فيها مليوناً و نصف يتضورون جوعاً و ظمأ ليست - طروادة- طبعاً ، و هذه السفن القادمة لم تكن مدججة بالسلاح . كاميرا ، قلم ، ريشة ، و كتاب ، و بعض الخبز ، و قليلاً من الدواء ، استكثرها الصهاينة على فقراء غزة ، فكانت المذبحة. أهو البحر ذاته الذي ركبناه في قديم الزمان و سالف العصر والأوان ؟
وليـد قـدورة
صيدا - سحماتا
12/06/2010
العودة الى صفحة "فن, تراث وحكايات"
|