صفحة البداية
عن الجمعية
حق العودة
عن سحماتا
أخبار سحماتا
مواقف ونشاطات
شهادات وذكريات
مقالات و دراسات
أخبار منوعة
فن, تراث وحكايات
قوس قزح
من رياض الثقافة
والأدب
أفلام وأغاني
صور سحماتا
دنيا الأطفال
تعزيات
روابط مميزة
دفتر الزوار
اتصل بنا
English

وليد قدورة


على تخوم الوطن

هذه المرة لم أذهب متسللاً ، لم أتوجه إليها خفية أو ملتفاً من وراء حاجز ، أو جارّاً قدميّ بينما أنتعل حذائي ثقيلاً ، كنت بكامل هندامي ، برداء صيفي خفيف حرصت على ألّا يكون خاكياً أو مبرقعاً ، هيأت نفسي صباحاً ، بحلاقة ذقني ، و أخذ حمام صباحي بارداً ، حملت منظاراً مكبّراً من مخلفات الماضي ، وحقيبة صغيرة تحوي -ساندويشات- قليلة ، وزجاجة ماء ، متجهاً إلى نقطة الانطلاق.

كنت كمن يعد نفسه للقاء حبيبته ، في غاية النظافة ، و في منتهى الترتيب ، لا أخبئ إلّا كاميرا حديثة صغيرة في جيبي ، لم يكن هناك مسدساً محشواً تحت قميصي ، لم تكن هناك بندقية على كتفي ، ليس لدي ما يستدعي الخوف أو القلق ، لست ذاهباً بنوايا عدوانية ، لا أرمي إلى عبور مناطق محرّمة ، و لا إلى اجتياز الأسلاك الشائكة ، مثل كل هذه الجموع ، أقصد المكان متفرجاً ، مطمئناً إلى روعة المشهد ، مثل كل هؤلاء المتحلقين حولي ، إنها رحلة العمر، هادفاً أن ترى عن بعد وجه وطنك، تماماً، قلت لنفسي : " مثلما كنت أراقب ذهاب و إياب حبيبتي إلى مدرستها سراً دون أن تلمحني أيام المراهقة."

منذ ثلاثة و ثلاثين عاماً ، لم أزر هذه الناحية ، تغيب عن الأمكنة ، تعود إليها بعد عقود متوهماً أن كل شيء بقي على حاله ، متوهماً ؟! نعم ، الحقيقة أن لا شيء حالياً ، يشبه الشيء ذاته ماضياً ، فيما عدا الصخور الكبيرة الناتئة المعلقة على قمم الجبال ، و الكهوف الصغيرة التي تفتح أفواهها على سفوح التلال ، و فيما عدا أن الوديان السحيقة التي يغمرها ضباب كثيف مازالت تخبئ أسرارها، و أجساد و رفات أصدقاء قدامى تاهوا في تعرجاتها.

أعلامٌ ، كثير من الأعلام، ترفرف على أرتال السيارات المتجهة إلى هناك ، " كنا ننضوي تحت راية واحدة" قلت لنفسي ، كثرت البيارق هذا الزمن ، أهي بشائر خير أم نذر شر، تمتمت بينما كنت أحدق بإشارات النصر يرفعها لنا القرويون الطيبون بأياديهم الصلبة ، كدت أصرخ ،" إنها زيارة إلى تخوم الوطن ليس إلّا و لكنها ليست عودة إليه ، فتلك مؤجلة" ، و لكني إستطعت إخراس صوتي ، و ابتلعت لساني ، و همست لذاتي " كم هم طيبون هؤلاء " أن تكون طيباً ، على أي حال ، أفضل من أن تكون شريراً و حاقداً.

السيارة تشق طريقها بمحاذاة الإسلاك الشائكة ، أمتار قليلة تفصلك عن أرضك المسلوبة ، هتف بعض الصبية الصغار داخل الشاحنة راجين السائق أن يتوقف قائلين أن بإمكانهم أن يتعربشوا و يقطفوا بعض البرتقال و المشمش المتدلية من الجهة الأخرى . حذر أحد العقلاء أن ذلك يعتبر استفزازاً لا مبرر له ، منبهاً ، أنها زيارة ودية لرؤية البلاد و تذكرها لا للبحث عن المشاكل ، أذعن الصغار و سكت الكبار و تابعت المسيرة رحلتها إلى البوابة، هناك حيث يتداخل العدو مع الصديق ، و حيث يتشابك الطيب مع الشرير و الشرير مع الطيب.

أين المنظار المكبر ؟! خذ المنظار بيمينك ، و تطلع إلى هذه السهول المخضوضرة والبيوت المسقوفة بالقرميد الأحمر ، حيث يمكنك أن ترى بسهولة كيف أن لكل دار حديقتها وحوض سباحتها ، حتى أنه يمكنك أن ترى أرجوحات الأطفال المثبتة أمام المنازل ، و أن تشعر بالنسمات العذبة اللطيفة التي تهزها بينما هي خالية خاوية ، ربما اختار الطرف الآخر أيضاً أن يتجنب المتاعب في هذه الأيام ، فلم يكن هناك إلا جنود مسربلون بالأسلحة و بخوذهم الحديدية ، و لا يرفرف فوق كل هذا إلّا علم عليه " نجمة داوود" وسط المستعمرة.

عن بعد ، و بالمنظار ، نظرت إلى بقايا قرى عربية مصابة بالقحط و الجدب والجفاف، مهملة، متروكة عن قصدٍ بهذا الحال لمعنى يفهمه لاحقاً كل متأمل أو متفرج، الكهول والعجائز بدأوا يشيرون بأيديهم المرتعشة المرتجفة صوب القرى ، يذكرون أسماءها، تنهال الدموع من أعينهم ، بعضهم بدأ يصرخ بأصوات عالية ينادي أقرباءه الذي بقوا ، تاركاً للريح أن تحمل صدى أنينه ، قال المنادي أن الزيارة إلى تخوم الوطن انتهت ، و أنه بحمدالله لم يحدث ما يؤدي إلى احتكاك ، و لم يقع أي استفزاز ، توقفنا في استراحة ، شربنا قهوتنا و سجائرنا، تبادلنا النكات ، فيما كان العجائز يغصون بدموعهم و ألمهم و أملهم ، و يحملون بأعناقهم مفاتيح بيوتهم العتيقة


وليـد قـدورة
صيدا - سحماتا

05/06/2010



العودة الى صفحة "فن, تراث وحكايات"


® All Rights Reserved, ABNAA' SUHMATA Association
  Best experienced using MS Internet Explorer 6.0, Screen is optimised for viewing at 800 x 600