صفحة البداية
عن الجمعية
حق العودة
عن سحماتا
أخبار سحماتا
مواقف ونشاطات
شهادات وذكريات
مقالات و دراسات
أخبار منوعة
فن, تراث وحكايات
قوس قزح
من رياض الثقافة
والأدب
أفلام وأغاني
صور سحماتا
دنيا الأطفال
تعزيات
روابط مميزة
دفتر الزوار
اتصل بنا
English

وليد قدورة


أم عزيز

منذ ثمانية و عشرين عاماً ، و أنا أتتبع أخبارها ، و أحاول أن أعرف ما جرى لها . جاءت إلي في كوابيسي المتكررة ، تذكرتها مراراً عندما كنت ألمح تجاعيد وجه عجوز طاعنةٍ تعبر الشارع بتثاقل ، أو تجلس على حافة الطريق ، و أفتش عن صورها في الصحف و المجلات حين يلتقي الجمع المعتاد ، و أحدق بثبات في الشاشة الفضية لعلني أراها بجلبابها الأسود و نظراتها الزائغة . تلبستني تلك المرأة كما لم تفعل واحدة من قبل ، استولت على مخيلتي ، و ظل طيفها يطاردني كل تلك السنوات . غبت ربع قرن عن البلاد التي أقيم بها حالياً ، و التي تضاهي وطني ، و لم أستطع نسيان ملامحها ، كانت حاضرة في كل مناسبةٍ حزينة ، كانت عيناها جاهزتين لتنغرسا كالمخرز في عيني بينما أتسلى برؤية أفلامٍ مشابهة لحكايتها ، أو أقرأ صفحاتٍ من تاريخٍ يتماهى مع روايتها ، إلى أن رأيتها من جديد بعد هذه الثمانية و عشرين عاماً التي غاب فيها جيل و نشأ آخر ، لا صلة له بالماضي ، بالكاد يعرف شيئاً عما جرى ، و آخر ما يهمه هو أن يعرف ، فالنسيان علاج أحياناً ، و فقدان الذاكرة يكون مقصد راحة أيضاً إذا تجاهلنا اعتباره ابتلاء.

" أم عزيز" . هذه هي "أم عزيز" ، التي حكيت لكم عنها بشحمها و لحمها ، انحنى ظهرها قليلاً ، خطواتها أكثر تعثراً عما كنت ألاحظه سابقاً ، شعرها أصبح مثل كتلة من ثلج تكلل هامة جبل أجرد، نظراتها مازالت تحوم مثل نحلة برية ، تقفز هنا ، و تحطّ هناك ، و عصاها الغليظة ذات العقد مازالت تتقدمها لتفسح لها طريق الدخول بين الجموع ، التي اعتادت على رؤيتها معلقة صور أبنائها الأربعة على صدرها ، صور بالأبيض و الأسود لشبان بعمر الزهور مغلفة بنايلون عتيق بدأ يميل قليلاً نحو الاصفرار.

الجميع يعرف قصة " أم عزيز" الجميع يسد أذنيه قصداً عندما تحاول معهم صنع نهاية لقصتها ، أليس لكل الروايات بداية و نهاية ، هذا صحيح ، إلا مع " أم عزيز" التي مازالت تنتظر عودة أبنائها الأربعةالذين اختطفوا من بيتهم في أحد الأحياء البائسة من المدينة ذات فجر و لم يدقوا باب البيت مرةً أخرى . تغوص الأم في أدق التفاصيل : كانوا نائمين في فراشهم ، فراشهم على الأرض ملاصقٌ لبعضه البعض ، إثنان منهم كانا يغطّان في نومهم بعد يوم عمل مضن فلم يخلعا ملابسهم ، الإثنان الآخران كانا يرتديان - بيجاما- زرقاء مقلمة ، اقتحم أفراد ميليشيات يلبسون بدلات كاكية البيت ، انتزعوهم من فراشهم مثل خرق بالية ، حاول أحد الأبناء أن يأخذ هويته من الخزانة فقال له المسلحون أنه لن يحتاجها ، لم يفهم الإشارة ، لم يعرف أن الغائبين لا يحتاجون إلى بطاقات تعرف عن شخصياتهم.

منذ تلك اللحظة ، لم أرهم ، ذابوا ، مثل فص ملح ، هكذا تقول " أم عزيز" التي ترفض أن تصدق أنهم ماتوا ، " لم يأتني أحد بدليل" تمضي قائلة ، و هل أتاك أحدٌ بدليل على بقائهم أحياء أسألها ، نصف أحياء و نصف أموات هكذا تقول الأم - التي أصبحت عنواناً و رمزاً للمفقدوين الغائبين الذين ينتظر أهلهم عبثاً رجوعهم.

قابلتها ، هذه المرة بينما كانت الأمهات العاديات يحتفل بهن في عيد الأم ، كانت هناك علب حلوى و زهور ، عناق و قبل ، دموع فرح و حلقات ضم ، و وحدها ، كانت ذات العيون الزائغة تنتظر في " خيمة اعتصام صغيرة" أقامتها الأمهات اللواتي لا يعرفن مصير أبنائهن أو أزواجهن ، وحدها كانت ترنو بنظرها بعيداً علّ أبنائها يكونون بين القادمين لتهنئتها ، وحدها " أم عزيز" ستظل تنتظر إلى ما لا نهاية ، حيث من الأفضل أن تخلو الرواية من نهاية ، إذا كانت كئيبة و مأساوية.



وليـد قـدورة
صيدا - سحماتا

26/3/2010



العودة الى صفحة "فن, تراث وحكايات"


® All Rights Reserved, ABNAA' SUHMATA Association
  Best experienced using MS Internet Explorer 6.0, Screen is optimised for viewing at 800 x 600