|
|
وليد قدورة
ماذا يفعل ثالثهما ؟
أحمد
لا يتجاوز عمر أحمد التسعة أعوام ، صغير أحمد على خوض المغامرات التي تقود إلى التهلكة ، صغير على الشجار البريء الذي يحدث بين الأطفال عادة ، و ينتهي بمصالحة بعد توسط صديق حميم ، لكن هذا الصغير الذي يقيم في بيته الكائن في أحد أحياء القدس القديمة وجد نفسه ذات يوم في مأزق مخيف . كانت ليلة ماطرة ، البرد يلسع الأبدان ، و الرياح الغاضبة تقتلع كل شيء من على الطرقات . الشرطة الإسرائيلية تقتحم البيت و تقذف كل من بداخله إلى الخارج ، الكتل البشرية تحمل مثل الأثاث المهترئ و ترمى في الشارع ، عائلة أحمد تفقد بيتها بلمح البصر ، إنه قرار إخلاء لا يمكن تأجيل تطبيقه حتى ينبلج الفجر ، أو يطل نهار جديد ، مبررات الإحتلال القانونية جاهزة ، و المقدسيون عند المحتل قطيع يمكن العبث به كما يشاء المحتل ، طالما أن الهدف الرئيسي هو إلغاء كل المعالم العربية لهذه المدينة المقدسة.
أحمد ، المنزوع من فراشه ، المبلول بالمطر مثل عصفورٍ منتوف الريش لا يملك إلّا غضبه الصامت المكبوت ، و لا يمكنه أن يستعمل إلّا قبضتيه الطريتين الصغيرتين اللتين لم تمسكا إلّا قلماً و دفتراً و كتاباً و ممحاة ، و اللتين لم تتأبطا إلّا شنطة مدرسية ، و لا تحملا إلّا سجادة صلاة ، يقتلع الصغير حجراً من على الرصيف و يرمي به سيارة عسكرية كانت تسد باب الدار ، السيارة معبأة برجال و نساء مدججين بالسلاح ، و الصغير رمى حجراً في لحظة قهر أصاب زجاج السيارة الذي لا يخترقه الرصاص.
يالمنظر أحمد ، ذو التسعة أعوام ، و هو يقاد مخفوراً مكبل اليدين إلى أحد مراكز الشرطة الإسرائيلية بتهمة ارتكاب فعل إرهابي . رمى أحمد حين لم يستطع الكبار فعل شيء ، ثار حين سكت الجميع حوله ، أبوه صوّره مكبل اليدين ، يشده أحد الجنود بأذنه اللينة الرقيقة كأنه دمية بلاستيكية.
أحد الصحفيين الأجانب الذي لفت انتباهه المنظر لاحق الصغير الذي قضى يومين في مركز الشرطة ، استنطقه هو الآخر ، عرف منه أنه تعرض للضرب و الجلد و الدوس بالأحذية ، و أنه منع من الذهاب إلى المرحاض لمدة 24 ساعة ، و أخرج بكفالة بعد يومين ، عائلة أحمد الذي يبلغ الأعوام التسعة نصبت خيمة بدائية صغيرة أمام البيت الذي لم يعد ، و لن يعود إلى أصحابه قريباً ، الآلاف ذاقوا ما ذاقه أحمد من طعم الإهانات المتكررة ، الآلاف من الأطفال يخزنون كراهية مستترة قد تنفجر في أي لحظة ، لم يجد كثيرون منهم من يلتقط صورهم و هم مكبلو الأيدي ، لم يسمع إلا قليلون صرخاتهم و هم يئنون تحت لسعات عصى المحتل ، رمى حجراً ليس إلا ، لم يكن ذلك قنبلة ، و لم يطلق رصاصاً ، و لم يقتل أحداً و سموه مع ذلك "إرهابياً صغيراً" . صناعة السلام تتطلب قلوب نظيفة و طاهرة ، يستحيل صنع السلام بينما تحتقن قلوب الصغار بالكراهية.
لينا
أغرتني حكاية "لينا" أن أفتش عن كتابها ، ذات يوم سأجد الكتاب و أستجدي دار نشر عربية أن توزعه . " لينا" الفلسطينية ذات الحادية عشرة عاماً ، المهاجرة إلى أمريكا مع أبيها الذي يعود أصله إلى قرية جليلية مغمورة لم يسمع أحد بإسمها إلّا قليلاً من القراء ألفت كتاباً اسمه "العالم الجديد" عن معنى فقدان الوطن ، اعتبرته إحدى دور النشر الأميركية فناً في عالم قصص الأطفال ، فتبنت طبعه و نشره ، و يلاقي رواجا واسعا لصدقيته و براءته.
" أحمد " و "لينا" وجهان لعملة واحدة ، الأول فقد بيته حديثاً ، و الثانية فقدته منذ إثنين و ستين عاماً ، الأول رمى حجراً ، و الثانية أضاءت شمعة ، ثالثهما ماذا يمكن أن يفعل بعدما أن بلغ السيل الزبى؟
وليـد قـدورة
صيدا - جنوب لبنان
5/3/2010
العودة الى صفحة "فن, تراث وحكايات"
|