|
|
وليد قدورة
ضياع سياسي.. تألق سينمائي
الجسد الفلسطيني يتململ ، الجراح أثخنته ، و النكبات تتوالى عليه . أوجاعه أكثر إيلاماً من أن تستوعبها البشرية ، البشرية ضاقت ذرعاً بما تحمله هذا الجسم بعد أن تلاعبت به لعقود من الزمن ، أي تضامن هذا الذي يضفونه على إسمه و يسمونه بإسمه ؟ يرمون له طوق نجاة و هو في بحر هائج ، لا تكاد أطراف أصابعه تلمسه حتى يجذبونه بعيداً عنه ، يضيئون له شمعة في نهاية نفقٍ مظلم ، يهرول ناحيتها ، فيطفئونها كما يدوسون على أعقاب سجائرهم . الفلسطيني كائن حي ، هو ليس ملاكاً ، يخطئ من يصوّره على أنه ، كله ،و بمجمله ، كتلة خير ، يبالغ من يظن أنه ظل على حاله بعد كل هذا الجلد الذي تعرض له . غضبه الداخلي، كامن ، مستتر ، مختبئ ، يبحث عن سبل تغيير حتى لا يشتعل ، العالم يحشره في زاوية ضيقة ، و يحاول عبثاً ترويضه دون أن يعطيه شيئاً ، لا شيء إلّا القنوط و اليأس ما يرمى إليه ، و هما أخطر سلاحين يزوّد بهما مخلوق حي ، إنهما لا يأتيان إليه تهريباً ، و لا يصنعهما محلياً ، و لا يجري عليهما تجارب ، ذاك أنه بذاته ، بكينونته تحوّل إلى حقل تجارب نادر ، يخترع و يستنبط حلولاً و رؤى للتعريف من جديد بهويته ، لا بأس لو هداه عقله إلى حياكة أكبر فستان شعبي علّ ذلك يكسب تسلله رداءً شرعياً إلى دوائر المعارف لبلدان الأخرى ، لا مانع لو فعل مثل كل شعوب الأرض أكبر صحن كنافة حتى يحشر إسمه في موسوعة جينيس ، أو أن يحيي مهرجاناً للرقص كما يحدث في بعض المدن الأوروبية باعتبار ذلك تذكرة دخول إلى نادي الدول الراقية .
دعوا روح هذا الجسد المتململ تتنفس ، إن لم تفعل ذلك فإن جموعه ستموت كمداً أو انتحاراً ، يستطيع الآخرون أن يعاقبوا الفلسطينيين على أي خطيئة يعتقدون أنه إرتكبها ، إلا على ما يجول في عقولهم ، يستطيعون محاسبتهم على أفعالهم ، لكنهم ( المحتل ، المتفرجون ، الضمائر الميتة) لن يستطيعوا الإقتراب قيد أنملة من خيال الفلسطينيين و أطيافهم الهائمة المحلقة ، المرفرفة في فضاء مازال حتى هذه اللحظة وطناً لا يحتكره نوعٌ أو كيان بذاته ، إذا كانت الطيور و الفراشات و النحل و الصراصير تجد لها مساحة في هذا الفضاء ، فلماذا يستعصي ذلك على من لا يستطيع الرجوع إلى بيته حتى الآن ؟
أحد السينمائيين الفلسطينيين قال لي بلغته الخاصة ، لماذا نلقي اللوم دوماً على الآخرين ، ألسنا بحاجة إلى تضامن فلسطيني قبل أن نطالب المجتمع الدولي بالتضامن معنا؟ّ ملاحظته أثارت انتباهي ، أحالتني إلى مراقبة النزعة المازوشية التي بدأت تستشري عند الضحية . ليس عجيباً أن تنهض السينما الفلسطينية بينما ينحدر الفعل السياسي ، إنها التعويض اللاإرادي عن الضياع السياسي، حين تعلن الأساليب المباشرة سقوطها ، تصعد الطرق اللامباشرة تلقائياً . السينما الفلسطينية رغم نقص الإمكانات و التمويل و سطوة الاحتلال ، و عدم تقدير قيمتها كسلاح ، تأتي بهمة أفراد لسد فراغ كبير أحدثه العقم السياسي ، و هذا ما يؤمل أن يقوم به الإبداع من شعر و رواية و سينما ... إلخ .
ما شاهدت من أفلام خلال الأيام المنصرمة للمخرج الفلسطيني إيليا سليمان لم يسعفني و ينعش ذاكرتي فقط ، إنما أعاد إضاءة مشعل في دهاليز الإحباط الكبير ، هذا ما نحتاج إليه الآن ، قلت لنفسي . نحتاج إلى جيش من الموهوبين ليعيد تقديمنا كما نحن دون أدنى رتوش إلى العالم . الأكيد أن هذا الجيش المتربص الذي تطل طلائعه من على قمم تلال الإبداع يحمل رايات الخلاص الفعلي التي سيغرزها في أرضنا الجدباء ذات يوم . سواءً في " سجل اختفاء" "يد إلهية" "تكريم بالقتل" و انتهاء ب "الزمن الباقي" . يثبت هذا المخرج أن بلادنا ليست عاقر و أن ولادةً جديدة تلوح في الأفق تحمل بشائر خير لمن حولنا . لا تقللوا من شأن الفن السابع ، هذه الكاميرا ترصد لا تعابير وجوهكم ، و لا حركاتكم و سكناتكم فقط ، إنها تنفذ إلى أعماق أعماقكم ، تستبطن ما تخططون له ، و ما تنوون فعله ، و هي بمنجاة من العقاب لأنها بعدسة سحرية ليس إلا.
أعذروني إذا كان كل ما ذكر سالفاً هو يوميات ذاتية منتزعة بمناسبة يوم التضامن مع الشعب الفلسطيني الذي أعلنته الهيئات الدولية .
وليـد قـدورة
صيدا - جنوب لبنان
15/1/2010
العودة الى صفحة "فن, تراث وحكايات"
|