|
|
وليد قدورة
زارنا "بابا نويل"
زارنا "بابا نويل" على حين غرة ، لم يتكبد أي عناء في الوصول إلينا ، لم يتسلق سوراً ، لم يتسلل خلسة ، لم يهبط عبر مدخنة ، كل المنافذ مفتوحة أمامه ، و من ذا الذي لا يحب إنساناً طيباً يسقط عليه من السقف مترعاً بالهدايا مجلبباً بالأحمر و الأبيض ، و اضعاً على رأسه قبعة مزركشة محببة تحميه من الثلج ، و تجعل أصابع الأطفال تؤشر عليه ؟!
اما لماذا لم يحتاج "بابا نويل" لصنع معجزته و القدوم إلينا خلسة ، فإن ذلك يعود إلى سبب بسيط جداً : بيتنا مشرع على كل شيء ، الرياح و العواصف تعبث بكل مقتنياته ، بيتنا لا سقف له منذ طار هذا أيام القصف ، نوافذ بيتنا مفتوحة ، كل من هبّ و دبّ يتلصص على من بداخله ، الكل يمتلك حرية التدخل في شؤونه ، إلا أصحابه الشرعيين فإنهم قابعون بداخله مثل دمى "بابا نويل"
***
"بابا نويل" جاءنا حاملاً رزماً كثيرة ، غنى لنا أغاني عيد الميلاد بكل اللغات ، قام بحركات تهريجية لينتزع بسمة من على وجوهنا الكئيبة ، حكى عشرات النكات ليبهجنا و يضحكنا و يفرحنا ، فتح بيديه المتدثرتين بكفوف صوفية علب الحلوى ، بذل أقصى ما يستطيع ليدس في أفواهنا المغلقة قطع الحلوى الملونة ، أغرانا بالإقتراب منه ، عندما أخذ يعرض علينا الملابس التي تناسب مقاساتنا .
لم تجدِ كل حيل "بابا نويل" بتغيير ملامج وجوهنا الجامدة ، لم تنفع كل وسائله في تحريك رموش عيوننا ، أو هز مشاعرنا . أشفقت عليه بعد أن رأيت حيرته ، فقد استنفذ كل مهاراته ، و لكن "بابا نويل" لا يحب أن يغادر بيتاً إلا بعد أن يزيل همه و غمّه ، فما الذي يمكن أن يفعله هذا المسكين لمن يحدقون إليه بغباء فيما يحاول إسعادهم و زرع الفرحة في أفئدتهم ؟
***
استفرد بي " بابا نويل" . أنا الأصغر في العائلة ، وشوشني قائلاً : " عيناك بريئتان ، و لكنهما ماكرتان ، دلني على طريقة تجعل منكم كائنات سعيدة " أنست إليه و ارتحت ، كم شغفت بالقصص التي رويت لي عن معجزاته ، و قدراته العجائبية ، "ورقة ليس إلّا " هكذا همست بأذنه ، قرص أذني بنعومة ، و قال : " كل هذه الهدايا تستبدلها بورقة ." توسلته ، رجوته ، فاضت عيناي بالدموع حين أعدت رجائي :" هل تستطيع أن تأتيني بالورقة؟
***
انتحى بي جانباً ، و سألني عن مضمونها . يا سيدي قلت ، هل لك أن تدلني على من يعطيني إذناً بالعبور إلى الجليل ، هناك حيث حفيت أقدام سيدنا عيسى (عليه السلام) ، و حيث تظلل بزيتونه ، و حيث ساح في وديانه و شعابه ، و احتمى بسراديبه و كهوفه ، و أكل من تينه و يقطينه ، و شرب من ينابيعه ، ألم يقل( عليه السلام) " دعوا الأطفال يأتون إلي ..." .
أتوق إلى رؤية الناصرة حيث جال ، و "بيت لحم" حيث كان ، و إلى المشي بعتمة شوارع القدس العتيقة ، و إلى التملي ملياً بدرب الجلجلة حيث شقي و تعذب ، و حين تحقق رجائي هذا أود أن أصرخ عالياً ، أيها الجليلي ، أليس لطريق الجلجلة من نهاية ؟!
***
انتزع " بابا نويل" قناعه ، لم أكن وحدي الذي يبكي ، كان وجهه مبللاً بالعرق و الدموع ، هو الآخر بدا صامتاً ، كئيباً ، مثل كل الجمع الملتف حوله في غرفةٍ بلا سقف ، و بلا مدخنة . "بابا نويل" لا يكذب أبداً ، صمت ، لا يستطيع أن يأتيني بورقة صغيرة ، أشفقت عليه بعد أن قال لي بصوت مبحوح منخفض خوفاً من أن يسمعه الآخرون ، الأمر يحتاج إلى أكثر من ورقة حتى يذهب الأطفال إليه . الصغار يفهمون متأخرين جداً الإشارات التي تبعث إليهم ، ينامون على رنين النواقيس و الأجراس و ينتظرون عيد الميلاد ، يرقصون حين يودعون عاماً ، و ينتظرون آخر ، ينتظرون الهدايا على أحر من الجمر ، كل ذلك ممكن . لكن "بابا نويل" لا يحمل أوراقاً في جيوبه المنتفخة.
وليـد قـدورة
صيدا - جنوب لبنان
2/1/2010
العودة الى صفحة "فن, تراث وحكايات"
|