|
|
وليد قدورة
خليل السكاكيني: ثائر لم ينصف
تساءلت كثيراً عن الأسباب التي تجعل إسمه يطلق على شارعٍ في القاهرة ، و على شارع آخر في رام الله ، و لماذا سمحت سلطات الإحتلال بتسمية مكتبة جامع الجزار في عكا نسبة إليه؟! و لماذا اختارته كاتبة يهودية مادة لدراستها مستفيدة من المخطوطات العديدة المحفوظة في الجامعة العبرية؟!
زال عجبي ، و قلّ استغرابي حين توغلت عميقاً في جمع المعلومات عن شخصية "خليل السكاكيني" الذي عاش طفولته و شبابه في القدس و توفي في القاهرة و دُفِن هناك بعد أن استقر فيها إثر تعيينه عضواً بالمجمع اللغوي بتزكية من د. طه حسين.
إصلاحي و ثائر ، إنساني مجدد، واسع المعرفة دون تعصب لدين أو عرق ، كاتب وأديب ، تربوي مرِن ، ناقِمٌ على الإحتلال و مقارِع له ، حيث الولاء للإنسانية يأتي في المقام الأول عنده. ها هو يطلب من إبنه في رسالة بعثها إليه عام 1932 ، أن يرسل إليه كتاباً جديداً سمع عنه "set the children free"مبرراً ذلك : " ألا يحق لي أن أفخر أني دعوت إلى تحرير التلاميذ قبل الألمان و الإنجليز ؟"
مركز خليل السكاكيني الموجود حالياً في رام الله أحد المؤسسات التي لا تخلِّد إسم هذا الرجل العظيم فقط ، بل تشكل منبراً وحصناً يستحيل إلغاؤه و اقتلاعه نتيجة الإنجازات اليومية الهائلة التي تحدث تراكماً نوعياً في الوسط الفلسطيني ، إنجازات تعتني بالفولكلور و الأزياء الشعبية ، بالرقص و الغناء ، بالموسيقى و الحكايات الشعبية ، و هي أعمال قد لا يعطيها البعض القدر الذي تستحقه من أشكال الصراع ضد الإحتلال ، أو يصغِّر آخرون من قيمتها ، لكنها ستظل القاعدة المتينة التي ترتكز عليها الهوية الوطنية الفلسطينية.
ها هو في عام 1923 بنشر مقالاته في " المقتطف" و " الهلال" و " السياسة الأسبوعية" محذراً من خطر الهجرة اليهودية متنبئاً بشراسة الإستيطان و محذراً من المخاطر القادمة دون التخلي عن نزعته الإنسانية : " إذا كنت أكره الصهيونية فليس ذلك كرهاً لحياة الأمة الإسرائيلية و نهوضها من وهدة الشقاء و لكن لأني أكره المبدأ الذي تقوم عليه الحركة الصهيونية و هو أن تبني قدميها على أنقاض غيرها".
رغم شهرة خليل السكاكيني ككاتب أصدر أول مؤلفاته " الإحتذاء بحذاء االغير " عام 1896 أتبعه بآخر عن " فلسطين بعد الحرب العظمى" و نشر بعده " مطالعات في اللغة والأدب" عام 1925 تلاها " لِذِكراك" و هي رواية جميلة أشاد بها أمين الريحاني بعد أن نشرت عام 1940 ، إلا أن الوجه الإنساني و التربوي كان آسراً و جذاباً عند خليل السكاكيني ، فقد آمن بأهمية فتح المدارس و تعميم الثقافة الوطنية ، و دعا مبكراً إلى وضع البرامج و المناهج التربوية المستخرجة من الواقع الخاص لكل بلدٍ عربي و يعتبر السكاكيني أول من استحدث فكرة المدرسة الوطنية و نظام التعليم من أجل التحرر الإنساني و الوطني ، و بذا يكون قد سبق بعقود أصحاب نهج " تعليم المقهورين" الذي بدأ يسير عليه أصحابه في أميركا اللاتينية نهاية القرن العشرين .
يقر الآن كثير من البحاثة و الدارسين أن غبناً كبيراً لحق بالسكاكيني ، و أن صفة الريادة لا تنطبق على أحد كما انطبقت عليه ، و أن نظريته في التعليم جديرة بأن يجري التمعن بها من جديد. " أيها المدرس ، احترم التلميذ ، ناده يا سيِّد ، إياك أن تجعله يقف أمامك وقفة الخاضع الضعيف ، أشعر التلميذ بأنك عادل ، و انفخ فيه من روح الرجولة ما يجعله عاملاً في المستقبل . ليست وظيفتك أيها المعلم أن تخرِّج دراويش مطأطئي الرؤوس ، إياك أن تكون شديد المراقبة على التلميذ ، أشعره أنك تثق به و بشرفه . غض الطرف إن ظهر منه أي شيء ، لا تقل له أنت كاذب ، صدقه و لو كان كاذباً "
و لا شك أن مثل هذه الآراء التي احتواها كتابه " الدليل" الصادر عام 1934 تعتبر ثورة حقيقية في حقبة كانت الكتاتيب و مدارس المساجد و المدارس الصغيرة في القرى هي الخط السائد في المجتمعات العربية و قد بلغت ثورته مداها حين عارض تعليم النحو و قواعد اللغة مؤيداً اتباع الطريقة الخلدونية القائمة على الشواهد دون القواعد ، و اعتماد التدريب و المران لتثبيت القاعدة في الأذهان و هذا هو في رسالة لإبنه أزمة البشرية بقوله : " إذا جاع الناس فليس لقلة الطعام ، و إذا عرّوا فليس لقلة الثياب ، و إذا احتاجوا فليس لقلة الأشياء و لكن هو النظام المختل المعتل ، الذي يغني القليلين و يفقر الكثيرين ، يسعد واحداً و يشقي ألوفاً "
السكاكيني ، الذي عشق الموسيقى والفلسفة اليونانيتين، وقرأ " نيشته" وترجم ل"روسو" والذي كتب على بطاقته الشخصية " خليل السكاكيني إنسان إن شاء الله" كان نصيراً قوياً للمرأة التي لن " تترقى في أفكارها وآدابها وأخلاقها إلا إذا كانت حرة وهذا من حقوقها الطبيعية التي لا يجوز لأحد أن يضن بها عليها أو يسلبها إياها " هذا الرجل جدير أن يوضع تحت المجهر، وأن ينصف .
وليـد قـدورة
صيدا - جنوب لبنان
22/8/2009
العودة الى صفحة "فن, تراث وحكايات"
|