|
|
وليد قدورة
آني كنفاني: عاشقة المخيمات
آني .. هكذا يشير أطفال المخيم بأصابعهم إليها وينادونها باسمها مجرداً حين يلاحظون مجيئها إلى مؤسستهم، لم تفقد شيئاً من هيبتها أو قوة حضورها. ولم تضعف إرادتها أو تتراخى عزيمتها رغم تبدل الزمن وتغير الأحوال. ها هي تستعيض عن الجموح إلى الثأر والإنتقام بالنزوع إلى التحدي وإكمال ما بدأه زوجها.
آني كنفاني التي كانت تدخل الجريدة مثل نسمة هواء عليلة، تجلس مع المحررين ببساطة ودون أدنى إدعاء، هي زوجة الكاتب الراحل غسان كنفاني التي شاركته إبداعه وكفاحه دون أن تسبقه بخطوة، أو تتجاوزه بسنتيمتر واحد، مقتفيه بذلك سلوك الشرقيات المحافظات اللواتي لا يحلمن إلا بتوفير بيت هادىء، وحضن دافىء، وراحة بال لأزواجهن.
هي "الجندي المجهول" يقول عنها أبناء المخيمات التي انحازت تماماً إلى جانبهم حين تعرفت على بعض رموزهم عام 1960 بينما كانت تحضر مؤتمراً طلابياً في بلغراد وهي الدانمركية التي لم تكن سمعت حتى ذلك الوقت عن محنة هؤلاء الذي "تمكن العالم من دفنهم في المخيمات" وهكذا قادها تعرفها عليهم إلى أن تصبح داعية متحمسة مناصرة لقضية هذا الشعب وجعلها تتجه إلى الشرق لتعرف سر الغموض والإبهام الذي يحيط بكلمة فلسطين في بلادها فجاءت إلى بيروت مستطلعة أوضاع هؤلاء المحشورين في المخيمات حيث التقت بغسان الذي كان يعمل محرراً في صحيفة "الحرية" اللبنانية والذي أسرها بإنسانيته وبإيمانه المطلق بقضيته.
رغم مضي 35 عاماً على اغتيال زوجها حينما دست له المخابرات الإسرائيلية عبوة ناسبفة في سيارته لازالت آني تقيم في بيروت، تكمل ما بدأه زوجها، وتستلهم من كفاح أبيها الذي كان مقاوماً شرساً ضد النازية في الحرب العالمية الثانية.
... من حي إلى حي.. ومن بيت لآخر.. ظلت تنتقل في العاصمة اللبنانية، محتضنة إبنتيها، وحارسة لهما بينما كانت شتى أنواع الحروب تغزو العاصمة، ولكنها أصرت على إنجاح مشروعها الإنساني العظيم الذي استفاد منه حوالي عشرة آلاف طفل فلسطيني في المخيمات حتى الآن، ذاك أنها التقطت واستوعبت ما عجز الجو العام وحملة البنادق من إدراكه من أن انتصار الفلسطينيين ونجاحهم لا يأتي إلى عبر زرع ثقافة وطنية موضوعية في عقول صغارهم الذين ولدوا ونشأوا وتربوا في المنافي، وهكذا بدأت بعد امتصاص صدمة اغتيال زوجها، بدأت مباشرة بتنفيذ مشروعها الإنساني الكبير الذي جعل إسم زوجها يحلق على واجهة مجموعة من المراكز للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، ومكتبات عامة، ورياض أطفال توزعت في عموم المخيمات اللبنانية كما تولت هذه المؤسسات إعادة نشر روايات وقصص ومسرحيات غسان التي بلغت 18 مؤلفاً ورغم قناعة آني أن "فرداً بعينه لا يستطيع تغيير العالم" إلا أن إرادتها الذاتية كسبت الرهان بينما كانت هذه الشقراء ذات الشعر القصير والجسد الرقيق تصول وتجول في أزقة المخيمات جذباً للناس إلى فكرتها وتشجيعاً لهم على إرسال أطفالهم إلى أحضان مشروعها، حيث يتخرج سنوياً مالايقل عن 1500 طالب من هذه المدارس.
قليلاً ما تطل آني على الإعلام، قليلاً ما تتحدث عن نفسها، مازالت مقيمة في لبنان، متنقلة من مخيم إلى آخر، أقنعت كثيراً من الدانمركين نساءً ورجالاً بعدالة القضية، ثمة شهود على ذلك، إيـفا التي قطعت قدماها في تل الزعتر، الطبيبة دينا التي أفنـت عمرها متطوعة في مستوصفات وعيادات نسائية تخدم الفلسطينيين، صديقة لها منسية الإسم قضت هي الأخرى في مجزرة صبرا وشاتيلا، آني لم تتعـب بـعد.. حرارة إيمانها أعلى درجات من بعض أبناء القضية، أبناء المخيمات يحبونها، يعتبرونها قديسة، ملاكاً هبط عليهم من السماء وينتظرونها كل صباح.
وليـد قـدورة
صيدا - جنوب لبنان
(2007)
30/7/2009
العودة الى صفحة "فن, تراث وحكايات"
|