|
|
وليد قدورة
لماذا لم يدقوا جدران الخزّان؟
لو بقي غسان حيّاً حتى اليوم ، لأعاد طرح السؤال ذاته برواية جديدة أخرى غير " رجال في الشمس" التي مثلت إحدى روائعه. ذلك أن غسان كنفاني هذا الأديب ، الروائي ، القاص المسرحي ، الفنان و الصحفي كان يستشرف ما يحدق بشعبه و يعرف بحدسه الإبداعي المميّز ما ينتظره لاحقاً من أهوال ، و وفق ذلك لامست كل أعماله هواجس ناسه و استلهمت منها ، دون أن تفقد نصوصه طعمها الأدبي الخاص و إن جاء في كثيرٍ من الأحيان مرّاً ، منغصاً ، متهكماً على كثيرٍ من الرموز و الأحداث التي كانت مادة لأعماله دون استغراق في سردٍ تاريخي جاف أو تصدٍ بلغة حماسية مباشرة لما ألم بأمته من كوارث و مصائب.
ولاؤه لوطنه كان مطلقاً ، و كان دافعاً ، و نادراً ما كتب إلا و هو مسكون بالألم الفلسطيني : المخيم ، طوابير الإعاشة ، اللجوء ، الإغتراب ، الاستشهاد ، التمزق الداخلي في الشخصية الفلسطينية، عدم الإحساس بالأمان ، الركض الدائم من بقعة إلى أخرى طلباً للقمة العيش، و هكذا برزت نماذج عدة في أعماله ، منها من يذعن للهزيمة و القنوط ، و أخرى معاندة داعية إلى الغضب و الثورة.
صباح 8 يوليو 1972 لاعب غسّان أطفاله ، أصلح قطار إبنه ، قبّل شقيقته و زوجته و اتجه إلى سيارته في إحدى ضواحي بيروت ، خلال ثوان انفجرت سيارته، و تطايرت شظايا جثته و جثة "لميس" إبنة شقيقته في أكثر من إتجاه. بعد أيام اعترفت إسرائيل بمسؤوليتها دون أن تقدم مبرراتٍ مقنعة سوى أن العملية كانت إنتقاماً لعملية ميونيخ.
غسان كنفاني " العاشق" صاحب "الرجال و البنادق" المتبحر " في الأدب الصهيوني" العارف جيداً أنه "عالم ليس لنا" و الذي كان يحنّ إلى " أرض البرتقال الحزين" و المتيقن أنه "عائد إلى حيفا" عبر "جسر إلى الأبد" صديق "أم سعد" و القارئ المتابع لشعراء مكتومي الأنفاس داخل الأراضي المحتلة أصبحوا رواداً ل "أدب المقاومة داخل فلسطين" . غسان هذا الذي رحل قبل ستة و ثلاثين عاماً لم يكن إرهابياً ، و لا مقاتلاً ، و غير مسلح إلا بقلمه و ريشته التي كان يأنس إليها كلما ضاقت الدنيا عليه ، و هو الذي استخف بدعوة رفاقه له أن يحمل مسدساً بعد أن دقت أجراس الأنذار ، و رفض أن يصاحبه سائق أو حارس باعتباره " حارس الحلم" الحقيقي ، فمن يجهز على كاتب إلا العقلية الجهنمية الإسرائيلية؟ أصبح الشك يقيناً بعد أن تتالى المسلسل الدموي ، حين أقدم عملاء الموساد على قتل الكاتب ماجد أبو شرار و الهمشري مترجم " ألف ليلة و ليلة " و " ألبرتو مورافيا" و الأستاذ الجامعي باسل الكبيسي.
الإسرائيليون لا يمزحون ، اصطياد المبدعين مسألة لا صلة لها بالانتقام ، إنها محاولة لإفراغ جسد أمة من الروح الثقافية . الثقافة كانت و ستظل أخطر أسلحة المقاومة لو عرفت كيف تستخدمها.
غسان كنفاني الذي كتب تحت إسمه الصريح ، و كان قلمه لاذعاً و حاداً حين كتب باسم " فارس فارس" و كان رائعاً و ملفتاً حين يذيّل عموده باسم " غينكاف". هذا الرجل مازالت صورته مرفوعة على عشرات المراكز و الدور الثقافية في المخيمات الفلسطينية التي تربي أجيالاً يتوقون إلى المعرفة و العلم باعتبارهما أكثر الأسلحة مضاءً في مواجهة الأيام المقبلة الأكثر صعوبة.
وليـد قـدورة
صيدا - جنوب لبنان
صدر في 2008
11/7/2009
العودة الى صفحة "فن, تراث وحكايات"
|