|
|
وليد قدورة
إلى تشيلي : المغني يموت واقفاً
لم يكن مانشيتاً ، لم يكن في الصفحة الأولى لأي جريدة. دون أي تفاصيل متعلقة به ، ورد في شريط إخباري ، كما يحدث دائماً ، النبأ يُنقل قليل الدقة ، المراسل الذي التقطه لا يدرك معناه و لا أهميته، قارئه المتأفف المتذمر لا يكترث كثيراً لخبر محشور بين عشرات الأحداث المفزعة و المخيفة . القارئ انقلب إلى عدّاد للموتى ، لمئات الموتى كل نهار. ما الجديد إذن؟ إذا كانت وكالة أنباء ذكرت أن عدد من غادروا كان ثلاثين أو ثمانين؟ ربما تمنى بعض القراء لو اتيحت لهم الفرصة فكانوا أيضاً بين ركاب الطائر الميمون. هذه المرة لا يغادرون إلى البرازيل، إنها أبعد من ذلك بقليل ، تشيلي تشكل أيضاً بستاناً من بساتين الحدائق الخلفية لأميركا. تاريخ الهجرة العربية إليها أصيل و قديم، أنه يغور سحيقا في الزمن واصلاً إلى الحرب العالمية الأولى ، حيث كان من يمتلكون الإرادة أو المال ييممون وجوههم إلى ما وراء المحيط هرباً من - سفربرلك-. لم يعد هذا المصطلح دارجاً الآن، ربما كان واقعاً مسيطراً و لكن تعريفه في القاموس اللغوي غير موجود. على كلٍ ،فالعدد الذي لم يتوخ المراسلون بشأنه الدقة ، و حيث شُحِنت دفعة جديدة من الفلسطينيين إلى تشيلي من مطار بغداد الدولي، ليس مهماً كثيراً، نحن أمم لا نعترف بأهمية الأرقام. سخاؤنا و كرمنا يتجاوز المألوف ، منذ نشوئنا لا نبخل على ضيوفنا، حتى لو كانوا ثقلاءً جداً ، و حتى لو طال مكوثهم في ديارنا و بيوتنا أكثر من المتعارف عليه، فإننا نغض النظر عن استغبائهم و تطفلهم.
تشيلي بعيدة آلاف الأميال، عاش فيها و تألق بقصائده بابلو نيرودا، الذي أتقن الكتابة في الحب و الحرب، في العشق و الوطنية. أما في ستاد سانتياغو ، و في ليلها الكئيب، فقد حمل -فيكتور جارا- غيتاره و عزف و غنى وسط جموعٍ هائلة من النساء و الرجال و الأطفال. كانت الطغمة العسكرية قد انتزعتهم من فراشهم ، و أودعتهم المعتقلات و الزنازين ، و حين ضاقت هذه بهم، قذفت الآلاف في العراء، عرضة للصقيع و الحر، و الضرب بأعقاب البنادق من جنودٍ مغرر بهم كانوا يتناوبون حفلات التعذيب بينما يعلو صوت -جارا- و غناؤه ليساعد أصدقاءه على الصبر و الإحتمال.
يقول الراوي أن الجنود قطعوا اليد اليمنى للعازف، فحمل غيتاره و داعب أوتاره بأصابع يده اليسرى، هاجمه الجنود، فظل يغني كالمجنون، لكنهم قطعوا اليد اليسرى أيضاً، فأخذ الدم يسيل من ثقوب الغيتار، حطموا الغيتار بأقدامهم، و قطعوا رأس المغني، فارتفع هتاف الجموع بالنشيد الوطني التشيلي، و تحول الستاد الرياضي إلى حفلة غناء و رقص دام.
من نوافذ الطائرةالتي أقلتهم بعيداً عن مخيماتهم المحاصرة، سيطل ركاب الطائرة المنفيون الحالمون بالهروب ، و الذين راودهم توق العودة إلى وطنهم لمدة ستين عاماً ، سيطلون على مباني العاصمة التشيلية التي زال عنها كابوس الديكتاتورية و الإستيداد، و سيتأكدون تماماً أن هذه ليست بيوتهم في حيفا و يافا و القدس و نابلس و غزة، سيرون من علو تمثالاً لرجل إسمه سيلفادور إليندي ظل يقاتل حتى الطلقة الأخيرة دفاعاً عن حرية شعبه ، و سيعرفون بعد ذلك أن حفيدته - إيزابيل إليندي- قد كتبت أحلى الروايات حين فرّت صغيرة إلى إسبانيا ، و بعد ذلك إلى باريس.
أيندمون؟ لا نملك الندم أو عدمه إذا كنا لا نملك خيار أفعالنا، يأتي الندم إذا كنا نتخذ قراراتنا طوعاً ، و بكامل قوانا العقلية . ليس علينا أن نجادل في الندامة إذا كنا مجبرين ، و إذا دفعنا دفعاً إلى المعصية ، لأننا ، وقتها، نكون متلبسين أجسادنا لكن أرواحنا و عقولنا مسلوبة بالكامل.
دفعة جديدة من الفلسطينيين إلى تشيلي هذه المرة ، لا أحد منّا، يعرف إلى أين ستكون الهجرة الجديدة. ليست حكاية من الأساطير الأغريقية ، ليست ميثولوجيا، حدث هذا فعلاً قبل أيام.
وليـد قـدورة
صيدا - جنوب لبنان
27/6/2009
العودة الى صفحة "فن, تراث وحكايات"
|