|
|
وليد قدورة
تل الزعتر - 4 - بقلم: وليد قدورة
أسماء كثير من المخيمات موحية ، جميلة ، أسماء فيها رومانسية كما لو كانت مراعي للغزلان و ساحات لغناء العشاق . هذا عن الأسماء ، أما عما فعلته الأيام ، و ما صنعه بها اللجوء، وحرفة انتظار عودة الوطن ، فإنها ذكريات تقطر دماً، و تمطر دموعاً، و تحفل بالمآسي الفردية و الجماعية . لكل عائلة من قريتي حكاية ، لكل أسرة فلسطينية قصة، لو جمعتها لخرجت برواية لا تقل درامية عن بؤساء هوغو ، و لا عن إلياذة هوميروس ، و لكننا نهمل كتابة مذكراتنا ، تضيع قصاصات الأوراق التي اجتهد البعض فشخبط عليها ، تضيع مع كثرة الترحال و التنقل . بدو ، غجر ، فلاحون أم مدنيون، بتنا لا نعرف بل لا نجيد التعريف بأنفسنا، مشردون، مضطهدون، مناضلون، التبس الأمر علينا كذلك . ما أقسى أن لا تنجح في معرفة نفسك، ما أجود أن تتبع خطى سقراط حين صرخ " اعرف نفسك " ففي ذلك بداية العبور إلى الحقيقة.
سحماتا، جزء من كل . من يبالغ في التعصب لقبيلته و ينسى أرضه يرتكب إثماً دون أدنى ريب ، من يكتب ملامح يتذكرها عن قريته أو مدينته ، ليضيف جديداً إلى الرواية الفلسطينية ، فإنه يقدم خدمة جليلة لبلده ، و هكذا يفعل كل في مضماره : من كتب و مثل مسرحية " سحماتا" و من غنى لها العتابا أو الميجانا أو الزجل ، من استذكرها في صلاته ، و من همس بإسمها في مسجد أو كنيسة ، و من اقتحم الأهوال ، و استشهد في بحثه عن الحياة الجديدة ، و من ألف كتاباً ، أو كتب رسالة جديدة بها على الإنترنت ، أو من اعتز باسمها في غربته و منفاه، مهما كان جواز سفره ، و من سعى لزيارتها متسللاً أو محمياً بجنسية أجنبية ، أو تذكر يوم سقوطها ، فأضاء لها شمعة ، أو عزف لها نشيداً أو رسم لها لوحة. هي جزء من كل، و هكذا كان أهل بلدي في " تل الزعتر " حفنة من العمال و الباحثين عن لقمة عيش في ضواحي مدينة تباهت . آه كم تباهت بأنها ملجأ للجميع.
اشتغلوا في " تل الزعتر" عمالاً في المكلس حيث مصانع الأثرياء ، فتحوا حوانيت صغيرة ، سكنوا بيوتاً مسقوفة بالزنك ، يستظلون بها من قيظ الصيف و برد الشتاء. لم يكونوا وحدهم ، ليس أقل من عشرين ألف نسمة ظنوا أن الإسم الجميل " تل الزعتر" سيحميهم من الوحوش القاسية ، و أن تجاورهم سيدرأ عنهم الأذى . أقاموا مصالحة و سلاماً مع حزام الفقراء الممتد من الدكوانة ، النبعة ، برج حمود ، جسر الباشا ، المسلخ ، و تصادقوا مع الأرمن الذين ذاقوا مثلهم الأمرين.
ضاقت المدينة بالضواحي ، استنزفت المعامل أجساد الفقراء فقررت إزاحتهم جانبا. لا تعوز الجلاد المبررات حتى ينقض على ضحاياه . أصبح منظر حزام الفقراء بشعاً لا يتناسب مع بهرجة الفاشية الحديثة ، و مع تعصبها الهمجي القاتل.
الأصدقاء تركوا المخيم وحيداً. أن محمود درويش قائلاً : " يا وحدنا ، هذا ما حدث للتجمع الصغير الذي يضم ناساً من الخالصة ، فراضة ، سحماتا ، دير القاسي، شعب، و من قرى جنوبية لبنانية عانت من شظف العيش . على ماذا راهن الأصدقاء ؟ بعد ثلاثة عقود من المجزرة ، يمكن القول أنه كان رهاناً خاسراً ، مخيم تطبق عليه مخالب الفاشية ، و يقع بين براثن السياسيين ، فماذا يحدث؟
لأشهر عديدة ظل المخيم محاصراً بالنار . القناصون يصطادون سكانه بدمٍ بارد و من هم بداخله يستميتون في صراع البقاء . قاتلا أو مقتولاً، كانت حجة الطرفين ، الجلاد يلاعب الضحية قبل أن يجهز عليها . الضحية تتلوى ألماً و تستغيث، و الأشقاء لا يسمعون، بل ويمررون الجريمة ، قليلاً ما كتب عن مجزرة تل الزعتر، كأن هناك اتفاقاً على حذفها من سجل المجازر. كأنه لم يكن هناك باحث أو كاتب واحد يسجل وقائعها اليومي.
وقع المخيم أخيراً، استباحه المتحضرون الجدد . نصبت عشرات الحواجز على مسافة لا تتعدى خمس كيلومترات . لكل حاجز إسم، و لكل حاجز صاحب يقف على رأسه ، قليلاً ما استخدم الرصاص . كثيراً ما استخدمت حراب البنادق ، البلطات، المدى ، السكاكين، للقضاء، على من بقي حياً . أمهات صفينّ أو اختفين مع أطفالهم الصغار، عجائز طعنوا ، شبان علقت أقدامهم بالسيارات و سحلوا في الأحياء الراقية. عشرات اختفوا ، مصيرهم لا يزال مجهولاً. عشرات من قريتنا ، آلاف من الفلسطينيين و اللبنانيين قضوا في هذه المجزرة المنسية و شبه العلنية. لا كاميرا عربية ترصد ، لا صحافي عربي يسجل، أغلب من غامروا ، يا للعار ، و كتبوا و سجلوا كانوا ذوي عيون زرق ، ليسوا من بني جلدتنا. قليلاً من أعمالهم ترجم، قليلاً منهم من أفردت له منصة للكلام عما رأى أو شاهد.
لم يكن خروجاً جديداً هذه المرة ، مللنا نجاتكم و خروجكم أيها الفلسطينيون، هكذا كان يصرخ المقنعون : سنستأصلكم ، نلغيكم ، نصفيكم ، لا نحتاج إلى قاذورات تلوث مدننا الجميلة .
ليس هناك تلاً ، و لا زعتر الآن ، جلت على المكان قبل أسابيع . عمارات فارهة، وفيلات ، وقصور ، أقيمت فوق عالم سفلي من قبور ومدافن جماعية ، تأسست فوق جماجم وهياكل عظمية لآلاف المقاتلين الذين استبسلوا في الدفاع عن عوائلهم . لا رائحة للزعتر، هناك. حدائق من الزهور والورود التي لا تبعث أي أريج ، كإنما تنبعث منها رائحة دم.
5/6/2009
العودة الى صفحة "فن, تراث وحكايات"
|