صفحة البداية
عن الجمعية
حق العودة
عن سحماتا
أخبار سحماتا
مواقف ونشاطات
شهادات وذكريات
مقالات و دراسات
أخبار منوعة
فن, تراث وحكايات
قوس قزح
من رياض الثقافة
والأدب
أفلام وأغاني
صور سحماتا
دنيا الأطفال
تعزيات
روابط مميزة
دفتر الزوار
اتصل بنا
English

وليد قدورة


مخيم الرشيدية - 3 - بقلم: وليد قدورة

حططنا الرحال في الرشيدية . لا نملك القرار ، حيث توقفت الشاحنات نزلنا . إحدى حسناتها أن غرفها صغيرة توفّر شيئاً من الخصوصية ؟ فيها نسمة حرية ، حتى في المعتقلات الجماعية الكبيرة يتمنى السجين أن يحظى بمتر يمتلكه ، يبسط فراءه عليه ، يمدد قدميه، يسترخي و يتأمل الجدران.

هي غير -غورو- ليس في إسمها العربي الخالص فقط ، بل في أريج أزهار الليمون والبرتقال الذي يهبّ ناحيتها ، و في صدى أمواج بحر المتوسط الذي يناغي الآذان في آخر الليل ، و ناس المخيمات غالباً ما ينامون باكراً إلا الشباب المتهورين و الصبية المتمردين، و التواقين إلى الحرية، وموزعو المناشير السرية.

هذه المرة لم نكن وحدنا ، نحن أبناء "المخيم الجديد " وجدنا من سبقنا و أقام مضاربه في تلك الناحية من " جنوب لبنان". ساعدنا ذلك على أن نخرج من قمقم العزلة . "المخيم العتيق" سكانه جليليون أيضاً ، علما ، الزيب ، فارة....إلخ. الجوار التاريخي حيث القرى الفلسطينية لا تبعد رمية حجر واحدة عن الأخرى .

هب القديم لاستقبال الجديد ، أسعد ذلك أهلنا فيما كنا نقذف فراشنا ، مخداتنا ، أسمالنا البالية ، و أكياس الطحين و السكر التي حملناها معنا ، إضافة إلى علب الزبدة و السمن، والمعلبات التي طالما قضمت أظافرنا و جرحت أيدينا.

لا للمراحيض الجماعية ، كل صاحب "نمرة" يحفر مرحاضه داخل بيته ، و كل رقم له عدة أمتار من الأرض تعوّض له ذكريات المروج و الحقول و البيادر و أشجار التين و الزيتون في ضيعته، نحن أرقام الآن، و مربعات أيضاً، الأقارب ملتصقون ببعضهم لا يفصل بينهم إلا سلسلة من الحجارة. كم كان ذلك مفرحاً للصبايا و الشباب أنهم يستطيعون في "المخيم الجديد" أن يقابلوا وجوه بعضهم بتلقائية و بدون عناء ، و كم كان العجائز سعداء لأن البيوت الصغيرة تتيح لهم أن يروا الشمس كل نهار. كان معتقلاً أرقى حالاً من ذاك الذي سبقه ، نزلاؤه مستمتعون بلذة التفرج وحشرية الإستطلاع، يستطيعون أن يسخنوا دلو ماء و يجلسون القرفصاء ويستحمون دون أن تراقبهم عين من ثقب في ساتر قماشي أو قطني. يستطيعون أن يعانقوا زوجاتهم دون أن ترتجف قلوبهم هلعاً من صراخ جارٍ في "قاووش". و أن يعطسوا ، و يكحوا ، و يغنون " العتابا " و"الميجانا" دون أن يسببوا إزعاجاً للآخر ، إنها نعمة الاستحمام و الحياة الشخصية ، والغناء، و المشاجرات الزوجية دون دخلاء.

"الرشيدية" أفضل ، لكنه ليس الوطن ، كيلومترات تفصلنا عن الوطن ، حسبها والدي مرة فقال أننا على بعد 90 كلم عن سحماتا تقريباً، سأله أخي الصغير، لم لا نعود إليها ، فصمت و لم يجب . مقابل بيتنا ذو النمرتين ، كان بيت آخر مخاتير قريتنا ، الذي كان يحتفظ بختم " المخترة" . قريتنا كانت هي الأخرى نموذج. كما فلسطين ، للتعايش الإسلامي المسيحي، مختاران : واحد مسيحي و الآخر مسلم ، كان أبناء قريتنا " اللاجئون" يبحثون عن المختار المسيحي لتهنئته بأعياد الميلاد و رأس السنة ، و كان هذا مصدر فخر.

لم يكن في الرشيدية القديمة إلا بيتان مسيحيان من "البصة"، أما "الجديدة" فلا أحد، لكن هذا لم يكن مادة لأحاديث المتدينين حتى، و لا مجالاً لتهكمهم و تندرهم.

"الرشيدية" تبعد عشرة كيلومترات عن مدينة صور، الجنوبيون أكرموا وفادتنا ، التقاليد إياها : الكبة، التبولة، المجدرة، و الأهم من ذلك الفقر والبساطة اللذين يجمعان الجنوبيين وقرى شمال فلسطين.

الرشيدية مفتوحة. لا باب حديدي و لا مزلاج. درك و مخابرات لبنانية يتوسطون المخيم ويراقبون كل شاردة و واردة. لهم علينا حق الضيافة، و أن يسهروا على راحتنا، و لنا الطاعة والصمت. ليس البحر وحده نافذة الحرية ، بل " الشواكير" إنها الحقول الخضراء المنبسطة وبرك رأس العين التي شيدها الرومان ، كأنهم كانوا بانتظار مجيئنا منذ قرون ، ليرحبوا بنا على طريقتهم ، ألم يجعل من الماء كل شيء حي؟

ها قد بدأنا من جديد ، حدائق صغيرة جداً في بيوت صغيرة ، كثيراً من النعناع والبقدونس و الملوخية، و أشجار تين تنتظر أن يمشي الزمن لتعطي . أبناء المخيم وجدوا ضالتهم في العمل لدى أصحاب البساتين كقاطفي ليمون، أو مستخدمين في المدينة ، و أولاد يعبثون برمل الشاطئ ويسبحون، مشيرين بأصابعهم الرفيعة نحو أقصى الجنوب متسائلين عن موعد الرجوع.

إنه لجوء جديد ، خروج جديد ، مشي على النار عبر طريق الجلجلة ، لكنها إرادة البقاء، وصراع الحياة . بدأ المخيم يشهد توزيعاً للمناشير في آخر الليل ، و بدأت بعض البنادق تجد أيدي تحملها و تخبئها و تدفنها في الأرض . لماذا؟ لم يكن أحداً يعرف ما يخبئ المستقبل ، لكنه الإرث الذي اعتاده الفلسطينيون، بندقية مخبأة في قبو، أو كومة تبن ، أو على سطح بيت طيني ، إلى أن كان الانفجار ، و بدأ النضال المسلح ، عندها كانت " رشيدية " أخرى نهضت من تحت الرماد، قامت، انقلبت، من صبية وديعة إلى نمر ذي مخالب حادة، عند ذلك بدأ الصدام.


29/5/2009

العودة الى صفحة "فن, تراث وحكايات"


® All Rights Reserved, ABNAA' SUHMATA Association
  Best experienced using MS Internet Explorer 6.0, Screen is optimised for viewing at 800 x 600