|
|
وليد قدورة
مخيم غورو - 2 - بقلم: وليد قدورة
كان له باب واحد ، الباب كان حديدياً تغلق مزاليجه في السادسة مساءً . لا أحد يدخل ، لا أحد يخرج ، ثلاثة آلاف نسمة أو أكثر في أربعة أبنية ضخمة و ثلاث إسطبلات و مستودعان ، الآلاف تتكدس في الأبنية و الإسطبلات و المستودعات. "القاووش" قد يكون تعبيراً تركياً ، يضم ثمان إلى عشر عائلات ، كل هذه الكائنات تقصد أربع بيوت خلاء جماعية ، في طرف المخيم حمام جماعي أيضاً ممنوع على النساء ، مرتان في الأسبوع يدار الحمام . الناس ينامون في القواويش ، يتشاجرون علناً ، يمارسون الجنس شبه علناً تقريباً ، ألا يفترض أن يتطهروا بعد ذلك؟ حين يصبون دلو الماء البارد على أجسادهم في زاويةٍ من القاووش مغطاة بخرق بالية يهمهم كل من في المكان ، أمسكوهم متلبسين بالجرم المشهود . الجو بارد ، غاية في البرودة ، إنه صقيع بعلبك ، جليدها ، ثلجها ، ماؤها الذي يتجمد في الشتاء . أنفاس الناس ، شخيرهم ، تبويل العجائز أحياناً في القاووش لا يبعث الدفء ، سجون أم بيوت؟ لا ضرورة للمدافئ ، سنعود بعد أيام ، الوجهاء يقولون . الإنتظار ، إنتظار مرير يبلغ ذروته لدى تجمع العوائل على شرفات المباني في المساء . لا يخلو الأمر من هزال أو مرح ، الصبايا و الشباب لا يدركون هول ما حدث ، لا يعرفون أنهم أصبحوا بلا وطن ، و أن هذه الأبنية ليست بيوتهم الأصلية ، و أن "غورو" كان قائداً للجنود الفرنسيين الذين تمركزوا في هذه البقعة ، الصبايا و الشباب يتغامزون ، يسارعون للذهاب إلى الحمامات الجماعية ، و يتسابقون للمواعدة قرب حنفيات المياه.
الأولاد لا يحبون الباب الحديدي الذي يغلق في السادسة مساءً . يثقبون منافذ صغيرة ضيقة في أسوار المخيم . مشمش بعلبك ، خوخها ، توتها البري ، تفاح أشجارها يغري الأولاد ، فوهات حرية ، و لصوصية مبررة . الجائع لا يعرف الصبر ، الصبية يتسلقون الأشجار ، يأتون لأهلهم بثمار لا يعرفون مصدرها . الصغار يفعلون ما هو أدهى و أمر . أعمدة القلعة و حجارتها الضخمة تستهويهم ، لماذا لا يتفرجون كما السياح الأجانب ، السياح يلتقطون صوراً لبعضهم وهم على ظهر جمل ذي هودجٍ مطرز . السياح يلتقطون صوراً أخرى و هم يمتطون حماراً صغيراً ، الأولاد الفلسطينيون يتفرجون على السائحين و الزوار ، السائحون لا يكترثون ، لا يهتمون بهم ، الجمل و الحمار و أعمدة القلعة أهم من كل هؤلاء المشردين.
حذر لدى الجميع عندما يخطون خطواتهم الأولى خارج أسوار المخيم ، "باعوا بلادهم" عبارة كان يسمعها كل من يحاول اكتشاف أبعد من مساحة الكامب.حذر متبادل بين الوافدين الجدد إلى المدينة و سكانها ، يذكيه أصحاب البساتين و زعران المدينة الذين تطارد عيونهم الجميلات الفلسطينيات ، تلاه تعارف فعلاقات بطيئة فوئام . أصبح بإمكان الفلسطيني بعدها أن يذهب إلى "رأس العين" و أن يتردد إلى واحدة ، من داري السينما ، و أن يتطلع بدهشة إلى منازل مسقوفة بالقرميد الأحمر ، و أن يتجول في سوق الخضار فيشم رائحة " السفيحة" البعلبكية ، ينظر إلى اللحم الطري لخروف مذبوح حديثاً . أدرك الطرفان أن جذرهما واحد ، فقدح زناد الود. واشتعلت نار الألفة . لكن كلمة "غورو" المعلقة فوق الباب الحديدي العريض كانت تزعج الشباب الصغار فعمدوا إلى تلطيخها أكثر من مرة بطلاء أسود ليكتبوا " مخيم الأمير فخر الدين" ليجلبوا لأهلهم المتاعب مع حراس هذا الغيتو العتاة.
من سحماتا ، شعب ، دير القاسي ، سعسع، كان أغلب اهل المخيم ، عائلات قليلة أخرى من الجاعونة ، قديثة ، الصفصاف ، الياجور ...الخ. كلهم كانوا يباتون على جمر الإنتظار ، طال الإنتظار ، بدأت أكياس الطحين و الإعاشة الشهرية تأتي تباعاً . دخلت تقاليد جديدة : الوقوف لاستلام الإعاشة كل شهر ، السعي في الصباح الباكر لتناول قدر من الحليب من مراكز الأونروا ، من ينسى طعم حبة زيت السمك التي كنا نجبر على تناولها في تلك المراكز؟ أو رائحة د.د.ت الذي كان يرش على رؤوس التلاميذ بطريقة جماعية لمقاومة القمل و البراغيث ، من هو الذي لا يتذكر كيف كانت أحذيتنا المطاطية المثقوبة تغوص في الثلج و الجليد ، أو كيف كانت أصابعنا وأقدامنا المتورمة من فعل ذلك تنز دماً و قيحاً طوال موسم الشتاء؟
تعلم الأهالي دروساً جديدة في هذا المنفى القسري، السجن الذي لا نهاية له ، حيث كبار القوم لم يعودوا كباراً ، انقسموا بين " عائلات مستورة" تحظى بامتيازات خاصة من الأونروا ، و رجال كانوا ملّاكاً وأصحاب أراضي يعملون في حقول البقاع لاقتلاع البطاطا و زرع البصل ، قلة امتهنت حمل صندوق خشبي على ظهرها ، تدور به القرى ، و تعود إلى عوائلها محملة بالبيض البلدي و الكشك و البرغل ، و تقطع أميالاً مشياً على أقدامها لتأمين قوت يومها . مضنية بداية التأقلم في فضاء غريب مجهول لا يعرف الأفراد فيه إلى أين يمضون. في خضم صراع البقاء هذا ، و في سياق لعبة استخدام الفلسطيني تاريخياً ، تنبعث عيون السلطة إلى إمكانية الإستفادة منه و إفادته كما نظر لها البعض . لماذا لا يشارك الفلسطينيون في إتلاف مزارع الحشيش والخشخاش المنتشرة بكثافة في المنطقة؟ بدأت الاستجابة للدعوة ، صبية ، عجائز ، شباب تحملهم شاحنات الجيش ليقتلعوا النبتة الشيطانية . هناك يقعون في الفخ ، جنود مسلحون وراءهم يحثوهم على ما اتفق عليه ، و أصحاب المزارع يحملون بنادقهم يهددون بها كل من يقترب من مصدر عيشهم . دقائق مرعبة تصادف هذه الجموع البائسة التي تحجم عن الإقدام خوفاً ، و لا تستطيع التراجع هلعا ً . هنا يأتي دور المقايضة ، و هي حرفة رتبتها الأحوال و الظروف ، يرسل أصحاب المزارع رسولاً منهم يهمس بآذان هؤلاء الغرباء ، أن لا تقتلعوا هذه الشجيرة الصغيرة من جذورها ، اطرحوها أرضاً ، و ألقوا عليها حجراً ، حتى تبدو المزرعة مسطحة وغادروا بسلام . اتفاق تكسب فيه كل الأطراف، رجال السلطة يغضون الطرف مقابل خروف محشي ، المستخدمون يقبضون ليرتهم اللبنانية ، و الحقل يسلم من كل مكروه. كان هذا ما يحدث أغلب الأحيان ، و في مرّات قليلة أخرى كان الفلسطيني يقع بين نار الطرفين ، فتتطاير الطلقات فوق رأسه أو تصيبه دون أن يجرؤ على سرد التفاصيل.
إثنا عشر عاماً احتاج الأمر للاتفاق من رهبة الخروج من المخيم ، و حتى تتوطد الصلات مع أبناء المدينة. إثنا عشر عاماً حتى يدرك من حولنا أننا كائنات مثلهم من لحم و دم و عواطف و مشاعر ، نستطيع الآن أن نفهم الأمر ، لم يكن ذنب العاديين ، بل الثقافة الشفاهية المتداولة و الشائعة آنذاك أن الفلسطيني باع أرضه ، و أنه خرج طوعاً.
على أن هذه السنوات كانت مليئة بالحراك السياسي و الإجتماعي ، فقد صحا الفلسطينيون من الصدمة و بدأوا بالتساؤل . كتابات بالخط الأسود على مداخل المخيم خلسة : لا إسكان ، لا تعويض، لا توطين ، بل عودة لفلسطين. مناشير توزع في عتمة الليل بإسم " الشباب العربي الفلسطيني " تهاجم مشاريع التوطين ، نشرات معنونة ب "الثأر" "الصرخة" "الرأي" ترمى داخل القواويش ، فرق الكشافة تتشكل باسم "الكشاف العربي الفلسطيني" : فرقة الشهيد زغيب " و قسم يتلى كل صباح امام طلبة المدارس يحمل التأكيد على حق العودة. لم يعجب هذا المناخ السلطة السائدة ، و رجالاتها الواقفون أمام الباب الحديدي ، فبدأت موجات اعتقالات واحدة تلو أخرى ، و زار كثيرون "زنازين ثكنة أبلح" و "سراي الحكومة" و مركز الأمن العام في شتورة تحت شتى المبررات و الاتهمات .
البعلبكيون بدأوا يبدون تضامناً و عطفاً و حنواً على هؤلاء المستضعفين ، ذوو النفوذ بدأوا يتدخلون لفك الحصار عنهم ، لم يعد هؤلاء القادمين من شمال فلسطين عنصراً غريباً ، بل أضحوا جزءاً من النسيج الإجتماعي للمدينة ، و لكن ذلك كان مكلفاً و بعد لأي.
إلى إن كان ذات يوم ، دخلت سيارة فارهة إلى "مكتب مدير المخيم" الواقع في المدخل، وترجل من فيها مبلغاً أن على المقيمين هنا أن يكونوا جاهزين للإنتقال إلى مخيم جديد خلال يومين. لماذا؟ ليس من حق اللاجئ أن يتوجه بهذا السؤال ، عليه أن ينفذ و ذلك ما حدث بعد يومين إذ جاءت عشرات الشاحنات التي حشرت بها هذه المخلوقات مثل قطيع من العجول واقتيدت إلى " الرشيدية" ، قيل لاحقاً في معرض تفسير ما صار أن منظر المخيم أصبح مؤذياً للسياحة، والمخيم يقع على بعد عشرات الأمتار من "هيكل شمس" ، آخرون قالوا أن مهرجانات فنية هائلة ستقام في القلعة . لا يستقيم وجود اللاجئين مع النخبة المجاورة التي ستستمتع بالغناء و الموسيقى على مدرجات الهيكل ، ثمة اجتهاد متفائل بشر أن هذه خطوة أولى نحو العودة إلى الجليل و أن هناك صلحاً عربياً-إسرائيلياً سيعلن قريباً ، أليست الرشيدية على بعد كيلومترات قليلة من "الناقورة". حين لا تمتلك وطناً ، فكل العالم بين يديك ، سواءً كانت "الرشيدية" أو "بعلبك" سيان. كلها مخيمات ، تنطبق عليها قواعد اللعبة ذاتها ، لا يصادف اللاجئ معضلة في نقل متاعه و رميه على متن شاحنة ، إنه خفيف كالريشة ، لا خشية من خدش يصيب المفروشات ، و لا من ذهب يفقد ، بعد أن ضاع الوطن ، إلى الرشيدية إذن .
15/5/2009
العودة الى صفحة "فن, تراث وحكايات"
|