لناجي العلي... - رشاد أبوشاور

يرغب المعجبون بفن ناجي العلي بمعرفة جوانب من حياته، ولعلهم يبحثون عن تلك الحياة في الكتابات التي قدمت شيئا من سيرة حياته، وهم لا يكتفون بتلك المعلومات، بل يتأملون صورته كأنما ليستبطنوا سر إبداعه المدهش والجريء، والدائم الحياة. ودائما سيعودون لتأمل رسوماته، وسيبقون أصدقاء (لحنظلة) الولد الممصوص العافية البدنية، اليقظ الروح، الغاضب، وغير المستعد لتقديم أدنى تنازل عن فلسطين، فهو لا يصالح على حبة رمل من رمل صحراء النقب، أو حجر من حجارة حيفا، أو موجة من موجات بحر يافا وغزة...

يمكنني القول بأنني أعرفه، وأكثر بأن بيننا صداقة سأبقى معتزا بها ما حييت، أحسب أنها ما زالت خضراء، لم يذبلها رحيل ناجي اغتيالاً في لندن، بل إنها تتجدد باستمرار، ذلك أنني أواصل خطاي كما لو أننا مازلنا نمشي معا في بيروت تحت قصف الطائرات عام 1982، وكما لو أننا ما زلنا نتجول في زواريب مخيم (عين الحلوة) الذي ظل ناجي وفيا لناسه، وآمالهم، وإيمانهم، وبساطتهم، وطيبتهم، وصلابتهم، ووضوحهم.

إذا ما تصفح أي متابع لوحات ناجي ورسوماته، وقرأ الكلمات التي كان يعزز بها تلك الرسومات أحيانا، فأنا أجزم بأنه لن يستغرب اغتيال ناجي، بل لعله يتساءل: كيف نجا ناجي كل تلك السنوات التي خط بها تلك الرسومات التي شقت عصا الطاعة على قيادات دون مستوى القضية والشعب..والأمة، وحكام عرب خانوا أقدس قضايا الأمة، فناجي لم يكن فلسطينيا، بل كان عربيا فلسطيني الهم..فلسطينيا غاضبا على نظم حكم مستبدة، تابعة..هي السبب في النكبة، والتخلف، والانحطاط...

من أين انطلق ناجي، وكيف تكونت لديه تلك الصلابة؟

سيقال: من المخيم..وعندي أن هذا غير مقنع، فكثيرون عاشوا في المخيمات، ولكنهم انحرفوا، بل رأيناهم يقدمون التنازل تلو التنازل عن كل ما يمثله أهل المخيم من إصرار على العودة إلى فلسطين.

هنا أتوقف لأذكّر بأن ناجي العلي تلقن المبادئ الأولى في القراءة والكتابة، وعناد روح المقاومة، من أستاذه الشاعر عبد الرحيم محمود، الذي ما أن يذكر حتى يدوي نشيده الإنساني المفعم بالكبرياء:

سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى

فإمّا حياة تسر الصديق وإمّا ممات يغيظ العدا

هذا الوعي المبكر برسالة الشاعر، والفنان، والاعتزاز بالكرامة الإنسانية، تعزز من لقائه بغسان كنفاني ، الذي ما أن اطلع على رسومات الفتى الأعجف الوجه، الهزيل الجسد، القادم من مخيم عين الحلوة شائب الرأس، ومغبّر الوجه والملابس، حتى رحب بموهبته، وراهن عليها: أرسم يا ناجي..أرسم الحياة في المخيم، أرسم الجوع، والغضب، والقهر..فرسم، ونشر له غسان ما أبهر..فثمة خنجر يرسم، ومعاناة خطوطها السوداء تمتح من عمق المعاناة، والتجربة المرّة، والهزيمة، والقهر، ومذلة اللجوء والعيش في المخيمات.

ناجي العلي أبرم عهدا مع شعبه، وجماهير أمته بين المحيط والخليج، هو الوحدوي المؤمن بلا تردد بأن فلسطين قضية العرب المقدسة، وأن الصراع مع العدو الصهيوني وحلفائه ورعاته هو صراع وجود لا خلاف حدود.

ثمة ثوابت هي علامات في مسيرة ناجي، حمت روحه، ومنحته صلابة لا تثلم، ولا ينال منها الفقر والتشرد والاضطهاد، وقد ظل وفيا لها، بل صقلها بالخبرة، والثقافة الأصيلة، والتأبي على (المصالحة) على القضية، وهي تتجلّى في مسيرته المديدة الرائعة المُلهمة.

وختاما، أقول لكل من يكن الإعجاب والتقدير لناجي، ويمسك مثله على جمرة فلسطين، ويؤمن بوحدة الأمة العربية، ويرفض الطائفية والإقليمية، ويقدر قيمة الفن الحامل للقضية، والمنحاز للقيم الإنسانية، وفي مقدمتها الحرية والكرامة الإنسانية: يمكنك أن تعتبر نفسك صديقا لناجي العلي، وإن كنت لم تتعرف إليه مباشرة، لأنه رحل قبل ولادتك، أو في منفى بعيد عنك، ما دمت تدير ظهرك مثل حنظلة لكل أعداء فلسطين والأمة، وتتطلع إلى فجر الحرية الآتي حتما، ما دمت واحدا من روّاد ذلك الفجر الذي نرى بشائره رغم سُحب السواد...

* هذه الكلمة هي مشاركة في كتاب سيصدر قريبا في عمّان، بمبادرة من عدد من الشعراء والكتاب والأدباء الأوفياء لذكرى فنان الكاريكاتور الشهيد ناجي العلي.



5/7/2012






® All Rights Reserved, ABNAA' SUHMATA Association
  Best experienced using MS Internet Explorer 6.0, Screen is optimised for viewing at 800 x 600