"الصورة الحقيقية"، كيف تكون؟ مَنْ ذا الذي يحتكرها؟ من سخرية المشهد الذي نعيشه أن الجلاد، سارق التاريخ، المتآمر على الوعي واللاوعي، يدعي أنه هو مَن "سيكسر حاجز الصمت، ويكشف على الملأ الصورة الحقيقية"...
الصورة الحقيقية واحدة، ذات وجهٍ واحدٍ وإن غيبها العجز والظلم، تبقى كذلك وإنْ ظلت حبيسة الخيال والحلم، والصورة المشوهة الزائفة تبقى هي وإن عُلِّقَتْ في مداخل المدينة على طول وعرض الأفق..
وقد تقاطعت الصورتان بشكلٍ يدعو للدهشة في طريق عودتي من حيفا، مسقط رأسي وحضن حلمي، إلى يافا، أسرتي وحاضري، لقد اعتدت الصور الهجينة، تلك التي تسرق ملامح يافا يوميًّا، فلا يبقى منها سوى ذكرى مكان... ولكن الصورة التي اعترضت طريقي على مداخل يافا كانت تجلي الهوان بأبشع أشكاله، حيث لا يعود للمكان أو الزمان معنى.
كنت عائدةً من لقاءٍ جمعني برسامةٍ من أصولٍ فرنسية، كي نضع معًا تفاصيل الرسومات لأول قصةٍ أكتبها للأطفال، غمرني شعورٌ بالارتياح، وزال قلقي، كنت أخشى ما أخشاهُ ألا ينجح الفنان الذي سأتعاون معه في نقل ملامح الجد كما أراها وأريدها أنْ تكون إلى صفحات القصة، قصة "حينما يصير جدي شجرة زيتون"... أصيلٌ كالأرض، صلبٌ، حكيمٌ، في خطوط وجهه تفاصيل الحكاية، في انحناء ظهره تواضعٌ للسماء وقربٌ من الأرض... كوفيته امتدادٌ لأديم الأرض... جدٌّ يقودُ حفيدته من يدها ويطوف بها في بستان الزيتون، ينثر بذار الأمل والمرح والارتباط بالأرض... يقودها عزيزًا وتقوده كريمًا...
وعلى مداخل يافا سرقوا مني الجد وصورته! سحبوه من يده ذليلًا، مسكينًا، خائفًا، عاجزًا... وسجنوه في صورةٍ عملاقةٍ قاسيةٍ باردةٍ جارحة... هذا الجدُّ لن يصير يومًا شجرة زيتون، هذا الجدُّ الذي يسحبه جنديٌّ مدجّجٌ بالسلاح ميراث ذلٍّ وقهر...
انتابني رعبٌ، ماذا لو رآه طفلٌ من أطفالنا؟! أوقفت سيارتي إلى جانب الشارع، خرجت منها ونظرت حولي، من يساعدني كي أستعيد جدي؟ هلا نزلتَ أيها الجدُّ الطيّب؟ نمسحُ على جبينك، نتعمد من عرقه؟ هلا نزلت نزرعك شجرة زيتونٍ على سفوح مأساتنا؟ ما من مجيب! الشارع مزدحمٌ بالمارة، ينظرون إلى الصورة ويتابعون سيرهم، ووحدي توقف عندي الزمان والمكان!
كانت صورةً عملاقةً قد نُصِبَتْ على أحد المباني، صورة جنديٍّ إسرائيليٍّ يسحب شيخًا فلسطينيًّا من يده، وقد ذيل الصورة اسم مجموعةٍ تطلق على نفسها "صهاينة يكسرون الصمت"، بينما جاء عنوانها "هذه هي الصورة الحقيقية".
اقترب مني شرطي المرور وقال بالعبريّة: "أيتها السيدة، إنك تُعيقين السير... هيا تحركي من هنا"، تمتمتُ بالعربيّة: "وأنتم تسرقون جدّي!"... تساءل: "ماذا قلتِ؟"، أجبتهُ بالعبرية: "لقد أضعتُ جدي.."، نظر إلي باستغراب، وضرب بيده على السيارة: "هيا، هيا تحركي.."
تحركت أبحث عن جدي الذي سرقوه...
عن عرب 48
5/11/2012
|