الشاعر الشعبي الشهيد نوح إبراهيم - د. محمد عبدالله القواسمة
|
يعتمد الباحث نمر حجاب في كتابه الموسوم بـ' الشاعر الشعبي الشهيد نوح إبراهيم' على مقابلة كثيرين ممن عرفوا الشاعر والتقوا به، فيقول في المقدّمة إنّه تحمّل أعباء التنقل من مكان إلى آخر حتّى يلتقي بزملائه في المدرسة الإسلامية، ومعارفه ممن عملوا معه في شركة للدخان، وجيرانه في مدينة حيفا، إذ لم يكتف بما جاء عنه من أبحاث سريعة في أعمال عيسى الناعوري، وتوفيق زياد، في كتابه 'صور من الأدب الشعبي الفلسطيني' وأكرم زعيتر في يومياته عن الحركة الوطنية الفلسطينية 1935 ـ 1939.
لا يقتصر الباحث نمر حجاب في كتابه على تقديم سيرة الشاعر الشعبي نوح إبراهيم، ودراسة شعره، وتحليل كثير من قصائده بل يتعدّى ذلك إلى البحث في الأحداث التي شهدتها فلسطين في ثلاثينيّات القرن الماضي.
في سيرة نوح إبراهيم يذكر الباحث أنه ولد عام 1911 في حي من أحياء مدينة حيفا، يدعى وادي النسناس، من أب فلسطيني وأم من أصل كريتي تسمى زيدة..استشهد والده وهو صغير، وبدأ مشواره الصعب في الحياة، فعاش في دير للراهبات، ثم عاد إلى العيش مع أمّه، فأرسلته إلى المدرسة الإسلامية التي سميت فيما بعد مدرسة الاستقلال، وهي المدرسة الوحيدة في حيفا في ذلك الوقت من عام 1929، وبعد أن أنهى الصف السادس، وهو آخر صف في المدرسة الإسلامية أرسل في بعثة إلى مدرسة دار الأيتام في القدس، (لا يذكر الباحث من أرسله في هذه البعثة) في تلك المدرسة تعلّم نوح تجليد الكتب، وعمل الصناديق الكرتونيّة فضلاً عن الطباعة. بعد تخرجه بدأ حياته النضالية والعمالية، إذ عمل في شركة الدخان في مدينة حيفا، وكان في الشركة ينشر تعاليم النضال والجهاد، ويغرسها في نفوس العمال حتى نجح في تنظيم كثيرين منهم في جماعة الشيخ عز الدين القسام، وكان له دور في الصحافة والإعلام فقد ترك شركة الدخان في حيفا، وسافر إلى يافا وعمل محرراً في كثير من الصحف التي كانت تصدر فيها ثم عاد ليلتحق بالقسام، وكان يرافقه في رحلاته إلى قرى حيفا وجنين، ويتأثر بتعاليمه في جامع الاستقلال في حيفا.
وفي عام 1931 أسس ورفاقه عصبة من الكشافة، أطلق عليهم الشيخ عز الدين القسام عصبة 'فتيان محمد'. واستقر اسمها أخيراً 'عصبة فتيان محمد الأباة' وتولّى نوح التدريب والتثقيف لهذه الجماعة، فكان يعلم الأشبال استعمال السلاح، ويحفّظهم الأناشيد الوطنية.
والمعروف أن عز الدين القسام ولد في بلدة 'جبلة' بالقرب من اللاذقية عام 1876، وسافر إلى القاهرة وفيها تتلمذ على يد الشيخ محمد عبده، جاء إلى مدينة حيفا ورأس فيها جمعية الشباب المسلمين، وعمل إماماً في مسجد الاستقلال، ومدرساً في المدرسة الإسلاميّة ومأذوناً شرعياً، واستشهد عام 1935 في أحراش يعبد من قرى جنين، ودفن مع رفاقه في مقبرة بين قرية 'بلد الشيخ' وقرية 'الياجور'.
يفيدنا الباحث نمر حجاب أن نوحاً عمل فنياً في إحدى مطابع بغداد عام 1934، ثم انتقل إلى العمل خبيراً فنياً في مطبعة البحرين، وقد أحبه من عمل معهم، وتسابقوا في استضافته في بيوتهم ومجالسهم، وعندما اشتعلت ثورة 36 ترك العمل، والتحق بالثورة دون ان يستجيب لتوسلات صاحب المطبعة بالبقاء.
وبعد وفاة القسام بعام اشترك تنظيم 'عصبة محمد الأباة' في الثورة، وتحوّل إلى السرية باسم 'عشيرة خالد' التي راحت تجمع التبرعات، وتمد الثوار بالسّلاح.كان لنوح إبراهيم دوره الفاعل والرئيس في تعاون القادة القساميين ليكون تحت إمرة قائد واحد فيما يسمى الجهادية، وقد تبنّت الجماعة الكفاح المسلح إلى جانب الثورة الصامتة، وهاجم ثلاثة منهم قافلة يهودية بالقرب من 'عنبتا' بقيادة الشيخ فرحان السعدي الذي انتقمت منه السلطة البريطانية بعد ذلك وأعدمته وهو صائم وفي الثمانين من العمر.
أمّا عن استشهاد نوح إبراهيم فيذكر الباحث أنّه بينما كان ذاهباً لزيارة أقاربه في قرية 'مجد كروم'، يرافقه ثلاثة من رفاقه، في طريقهم عند قرية طمرة كان الإنجليز يقومون بتحصينات لهم في الجبل. فانتبهوا إلى هؤلاء الخيالة، ورصدوا تحركهم، وبينما كانوا يصعدون من وادي عميق من أراضي 'كايول' إلى قرية 'كوكب أبو الهيجاء' كمن الإنجليز لهم قريباً من خربة 'ضميدة'، وفي موقع حرشي يسمى 'صنيبعة' بالقرب من 'طمرة' ترجّل الفرسان الأربعة ليستريحوا قليلاً ففاجأهم الإنجليز بينما كانوا يهمون بالرحيل فسقطوا جميعاً شهداء مساء يوم الجمعة أول يوم من رمضان عام 1357هـ الموافق 28/10/1938 وألقى الإنجليز جثثهم في بئر، ثم جاء أهل طمرة وحملوا جثث الشهداء إلى الجامع القديم بالقرية، وصلوا عليهم صلاة الجنازة، ودفنوهم في 'طمرة'، وقد أقيم لهم نصب تذكاريّ في القرية عام 1986.
ويذكر الباحث أن نوح إبراهيم لم يتزوج، وكانت له أخت تسمى بديعة، تزوجت وأنجبت بنتين، أما أمه زيدة فهاجرت إلى بيروت عام 1948، وتوفيت فيها عام 1952.
ارتبط نوح إبراهيم ارتباطاً قويّاً بتاريخ فلسطين مع بداية الاستعمار الإنجليزيّ، وتدفق المهاجرين اليهود والاستيطان الصهيونيّ، وما رافق ذلك من تأسيس الجهاديّة التي على رأسها عز الدين القسام، وظهور الأحزاب السياسيّة، والهيئة العربيّة العليا، والإضراب العام الذي استمر 6 أشهر من عام 1936، ومجئ اللجان التي كانت تأتي فلسطين كلجنة بيل الملكية..
أما عن شعر نوح إبراهيم فيذكر الباحث أنه اعتمد في دراسته على ما جمعه من ألسنة الناس الذين التقى بهم، فهو لم يعثر حتى على نسخة من ديوانه الذي أصدره بمساعدة صديق له من حيفا يدعى رشيد حسان، الذي طبعه على نفقته الخاصة، لأنّ الحكومة البريطانية صادرت نسخ هذا الديوان ومنعت تداولها بين الناس. كما صادرت إسطواناته، وحرّمت إذاعة أشعاره من إذاعة فلسطين.
تغنّى الشاعر نوح إبراهيم بحبه لوطنه، وأبرز في شعره معاناة شعبه، وسجل أحداث وطنه في الثلاثينيات من القرن الماضي. فنراه يكتب أول دلعونا في الرجال الثلاثة الذين أعدمتهم السلطات البريطانية عام 1930، وهم: محمد جمجوم، وعطا الزير، وفؤاد حجازي.يقول:
كانوا ثلاثهْ ارجال اتسابقوا عَ الموتْ
أقدامهم عليتْ فوقْ رقبة الجلادْ
وصاروا مَثَل يا خالْ طول وعرِضْ لبلادْ
يا عين يا عين يا عين ياء يا عين
إلى أن يقول:
من سجن عكا طلعت جنازة محمد جمجومْ وفؤادْ حجازي
وجازي عليهم يا شعبي جازي مندوبْ السامي وربعُه عُمونا
كان شعره صوت وطنه الغاضب، كما تجلى في أناشيده التي سجلها بصوته، وفي دفاعه في قصائده الأخرى عن الروح العربية الفلسطينية. ومن الأناشيد التي سجلها بصوته إسطوانة 'دبرها يا مستر دل' ودل هو القائد البريطاني ورجل الاستخبارات الذي عهدت إليه بريطانيا إخماد الثورة الفلسطينية.
يا حضرة القائد دِلْ لا تظُن الأمهْ بتملْ
لكن انت سايرها بلكي عَ يدك بتحِلْ
دبرها يا مستر دل
وفي قصيدة 'محاورة العربي والصهيوني' يفتخر بصفاته العربية، ويعلن استعداده للموت فداء وطنه فلسطين:
أنا العربي يا عيوني عند الموت ارموني
بمحي اسمْ الصهيوني وأحمي بلادي فلسطين
وقد رثى الشاعر القائد عز الدين القسام في قوله:
عزْ الدينْ يا خسارتك رُحت فِدا لأمتك
مين بينكرْ شهامتك يا شهيدْ فلسطين
وقد خلّد الشاعر نوح إبراهيم إضراب عمال الموانيء في فلسطين في قصيدته 'تحيا رجال البحرية'..
تحيا رجال البحرية من إسلام ومسيحية
بحريّة يافا البواسلْ أصحابْ الهمة العَليّهْ
تحيا بحارة يافا رجال النخوة المعروفة
أظهروا مدة الاضراب شهامة عظيمة مَوْصوفة
وفي قصيدة أخرى يعبّر فيها الشاعر الشعبي نوح عن شجاعة المرأة الفلسطينية، ويراها رمزاً للشهامة والشرف والمروءة؛ فيسرد في تلك القصيدة قصة المرأة التي تبيع ما تملك من حلي ومتاع لكي تشتري لابنها بندقية، ويذهب ابنها للقتال ولكنه يعود خائفا، وعندما يطرق الباب، تسأل أمه: من بالباب، فيجيبها إنه ابنها، فتنكره وتقول له: كذبت يا هذا. فيرجع الفتى ليقاتل ويستشهد. وقالت وهي تتلقى جثته: الآن اعتز بمثله. ورفضت المال من بعض أهل المروءة، فمن العار كما قالت أن تأخذ ثمن دم ابنها. يعلّق الشاعر نوح إبراهيم في نهاية قصيدته متوجها إلى أبناء أمته العربيّة قائلاً:
تعلّموا عنها هالمبادئ العليّهْ
وترجموا ها الحكايهْ لكل اللغاتْ الحيّهُْ
واعملوها رِواية تقرأها الأمهْ العربية
في النهاية يخلص الباحث نمر حجاب في كتابه أن الشاعر نوح إبراهيم عبر عن وجدان شعبه بأسلوب سلس، ولغة سهلة غنائية مفهومه، تقترب من الكلام العادي، وتحمل في ثناياها حب الوطن، وتدعو إلى الدفاع عنه، وتحث الناس على الثورة. لقد مثل شعره البداية الذهبية للشعر الشعبي الفلسطيني، وحمل مع معاصريه من الشعراء الشعبيين أمثال: فرحان سلاّم والحطيني والأسدي همَّ المجتمع الفلسطيني، وتجربته الثورية في مقاومة الاحتلال البريطاني والاستيطان الصهيوني في ثلاثينيات القرن الماضي.
نمر حجاب، الشاعر الشعبي الشهيد نوح إبراهيم، عمان: دار اليازوري،2006 في 256 صفحة من القطع المتوسط
2/8/2012
|