في الغرفة الصغيرة التي تقع تحت منزله في قرية الرامة في الجليل، قضى الياس جبران سنوات طويلة من حياته. «غرفة العمليات الموسيقية» ـــ كما يسمّيها ـــ المملوءة بالأعواد والآلات الوتريّة الأخرى، هجرها صاحبها منذ عام تقريباً، بعدما اضطرته أوضاعه الصحية إلى اعتزال صناعة الآلات الموسيقية. تعرّف إلى آلته المحببة، العود، بفضل جاره. «كنت شاباً في عام 1954 حين سمعت صوت موسيقى يأتي من بيت جارنا جاد. تبعت الصوت إلى أن وجدت جاد يعزف على العود في شرفة بيته وأمامه ورقة ليس لها علاقة بالنوتة الموسيقية، كُتب عليها: «إصبع ثالث ضربة، وتر ثاني ضربتين»... كان لحن أغنية «مرمر زماني»». أخذ الياس العود من جاره، وراح يدندن عليه مفاجئاً من حوله بعزف «مرمر زماني» من دون خبرة. «استفدت من متابعتي لأصابع جاد وهي تلعب على الأوتار».
منذ ذلك الوقت، أعجب بالعود، واستعار آلة جاره لمدة أسبوعين. خلال هذه الفترة، كان الياس جبران قادراً على عزف 10 مقطوعات من التراث الشعبي الذي يتكرّر في الأعراس. عندما انتهى الأسبوعان، كان عليه أن يعيد الآلة إلى صاحبها. قرّر أن يحصل على عود خاص به، لكنه لم يكن يملك ثمنه الذي يراوح بين 200 و500 ليرة (أي ما يعادل راتب ثلاثة موظفين آنذاك). وبسبب وضعه المالي، كان على الياس أن «يتنازل» قليلاً، ويرضى باقتناء آلة كمان ثمنها 19 ليرة فقط. بعدما جلب الآلة إلى منزله، قام بدوزنتها بحسب دوزان العود. عندها، قرّر دراسة الموسيقى. كان حله الوحيد أن يجمع 7 شباب من القرية يرغبون في دراسة الموسيقى، وينضمّ إليهم، ليجلبوا أستاذاً كي يدرّسهم. على مدار شهرين، التزم الياس جبران دروس الموسيقى الأسبوعية التي أعطاهم إياها صدقي شكري. بعد ثمانية دروس عن النوتة الموسيقية، قرر الياس أن يترك المجموعة ويعتمد على نفسه في الدراسة. «كنت أسأل كلّ مسافر أن يحضر لي كتاباً عن الموسيقى، ولو كان باللغة الهندية»، لماذا؟ «كنّا في الداخل الفلسطيني مقطوعين عن العرب والعالم، ولم يكن يمكننا استيراد كتب موسيقى من الخارج». في عام 1959، تزوج الياس، وانتقل مع زوجته نهاد للسكن في عكّا، في بيت «فوق السطوح» قرب الميناء. بدأ يعمل في مصنع بالقرب من عكّا، براتب 300 ليرة في الشهر. ورغم وجود الكمان إلى جانبه، إلا أن هذا لم يشفِ غليله للعود. هل يدفع راتب الشهر كاملاً ثمناً مقابل عود جديد؟ «قررت صنعَ عودي بنفسي». هكذا، قضى 6 أشهر، وهو يصنع عوده الأوّل بنفسه الذي يخبرنا اليوم بحزنٍ أنه فقده.
بعد استشارة أحد أقربائه، اشترى الأخشاب اللازمة لصناعة الآلة، وبدأت رحلة صناعة العود الأول التي اعتمد فيها على ذاكرته عن العود الذي استعاره من جاره جاد. كان يتفرغ لصناعة العود بعد مجيئه من العمل عند الرابعة أو الخامسة مساءً. انتهى من القالب والوجه وتفاصيل مجسّم الآلة، وحان وقت تركيب المفاتيح. توجّه الياس ــ أبو الموسيقيين المعروفين خالد وكاميليا جبران ـــ إلى منجرة في عكّا، وطلب إلى صاحبها أن يصنع له 12 مفتاحاً، بعدما رسم له شكْل المفتاح. عاد في اليوم الثاني ليجدها جاهزة، ودفع ثمنها 12 ليرة... «أكثر من راتبي الذي كان يصل في اليوم الواحد إلى 10 ليرات». بعد تركيب المفاتيح على زند العود، سافر من عكّا إلى حيفا لشراء الأوتار من شارع الملوك، ثم عاد إلى بيته في عكّا ووضع الأوتار في مكانها ودوزن العود. عند هذه اللحظة كان قد مرّ على بداية صناعته للآلة 6 أشهر. «صعب أوصفلك الشعور... كنت فوق الغيم!».
لم تقف حدود الياس جبران عند صناعة العود. علاقته مع صناعة البزق كانت مصادفة أيضاً. «جاء ابني خالد وطلب إليّ صناعة بزق له. لم أكن أجيد ذلك، لكنني نجحت في صنع الآلة منذ المحاولة الأولى». أما صناعة القانون، «فكان الفضل فيها لصديق من الناصرة جاء وطلب إليّ أن أصلح خللاً في قانون». لم يكن الياس قد لمس هذه الآلة قبل تلك اللحظة. «بعد المجازفة واكتشافي «عالم القانون الداخلي»، نجحت في تصليح الآلة ثم في صناعة القانون!». راح الياس أبعد من ذلك، وابتكر أشياء تتعلق بالغيتار. كان ذلك في الثمانينيات أثناء فورة الغيتار: «كل واحد صار بدو يعمل عمر خورشيد في فلسطين!». جاءه شاب يريد أن يصنع له آلة غيتار. أخبره أبو خالد أنه لا يصنع الغيتارات. عندها، خطرت في باله فكرة «تشريق الغيتار»، فأحضر آلة ووضع على زندها 4 قطع معدنية تؤثر على الصوت والمقامات الموسيقية، وكلّ من لديه خلفية عن المقامات الموسيقية صار في إمكانه العزف على هذا «الغيتار الشرقي». لا يرى أبو خالد أن هناك مدارس لصناعة العود أفضل من مدارس أخرى. «الأمر يتعلّق بمقاسات الآلة الصحيحة: سمك الخشبة، الطاسة، الوجه، وتوزيع الجسور الداخلية التي لا تراها العين». ويقول إنّ «من الخطأ التفريق بين العود العراقي والسوري والخليجي...». ينتقد «أعواد النحّات» (أسّسها الياس عبده النحات 1902ـــ 1993) وأعواد علي خليفة (الاثنان سوريان)؛ «لأنهما صارا تجاريين». يقول: «بات من النادر اليوم أن تجد عوداً يتلاءم مع رغبة عازفه الصادقة!».
بعدما رزق ابنه خالد، عاد إلى قريته الرامة في أواخر 1965 حيث بنى بيتاً وراح يلقّن الموسيقى في بيته، مواصلاً عمله في صنع الأعواد وتصليحها أيضاً. وفي عام 1967، عُين مُدرساً للموسيقى في مدرسة الرامة، فلحن ووضع الكثير من الأناشيد المدرسية. ورغم أنه نشأ في عائلة «لا تهتمّ بالموسيقى، بل كانت ضدّها»، إلا أنه استطاع أن يورث هذا الفن لأولاده الأربعة، خالد وكاميليا وربيع وراوية. نعرف هؤلاء الثلاثة، لكن ماذا عن رواية؟ يجيبنا بأنها «تمتلك صوتاً جميلاً، لكنها لم تختر الاحتراف. احتفظت بصوتها لنفسها ولنا في البيت». ربيع، إضافة إلى كونه موسيقياً، فقد ورث صناعة الآلات الموسيقية عن والده. «لا أرغب في أن يحترف ربيع هذه المهنة. علّمته أسراراً كي يصلح آلة شقيقه عند الحاجة». أما خالد، فقد كانت أول كلمة نطقها في عامه الأول: «دقعود»، مازجاً كلمتين لطالما تكررتا في البيت. لم يكن الطفل لينام من دون أن يستمع إلى عزف والده. يروي لنا أبو خالد: «ذات مرّة توفي أحد الجيران في عكّا، وطوال أيام الحِداد كنت مضطراً لإغلاق كافة شبابيك البيت في أكثر الأيام حراً، من أجل أن أعزف لخالد كي ينام!». قصة كاميليا بدأت أيضاً بفضل والدها أيضاً، إضافة إلى والدتها التي اعتادت أن «تهلهل» لأولادها قبل النوم. كانت التهاليل عبارة عن أغنيات لأم كلثوم حفظتها كاميليا ابنة السنتين والنصف. اليوم، يقضي الياس جبران الوقت في بيته، بين الاستماع إلى «سيّدة الغناء العربي»، وإلى عدد من قرّاء القرآن ومجوّديه، مثل عبد الباسط عبد الصمد، ومحمد صدّيق المنشاوي، ومحمّد رفعت. «قمّة الفن الموسيقي تكمن في التجويد» يقول. ويضيف: «هؤلاء الثلاثة قادرون على الغناء من دون موسيقى، وهو ما لا يقدر عليه كثيرون».
عن جريدة الأخبار اللبنانية
5/7/2012
|