مازن البندك ناشر وكاتب نظيف السيرة... - رشاد أبوشاور
|
وأنا أعمل على كمبيوتري، في وقت مبكر من صباح ذلك اليوم، منهمكا في قراءة آخر أنباء الثورات العربيّة، وما يحدث في هذه الدنيا الضيقة على (الغرباء) و(المشردين) عن أوطانهم، جاءني صوت نسائي عبر الهاتف..حزينا، سائلاً:
ـ أستاذ رشاد!
ـ أيوه..أنا.
ـ يؤسفني أن أُخبرك برحيل الأستاذ مازن البندك!
ماذا كان رد فعلي، وبماذا أجبت؟!
أغلقت جهاز الكمبيوتر، وبقيت وقتا لا أدري كم طال( صافنا) أمام الشاشة المعتمة، ثمّ استيقظت على تساؤلي، وقد عرفت من صاحبة الصوت أنه كان مريضا منذ حوالي شهرين، وأنه قضّى هذا الوقت في المستشفى: ألهذا لم يتصل بي الأستاذ مازن طيلة الشهرين الماضيين، هو الذي عودني أن يتصل بي أحيانا من باريس، وأحيانا من بيروت التي عاد واستقّر بها، واستأنف منها إصدار (الجيل) المشردة مثله؟
أعادني النبأ الفاجع إلى (بيت لحم)، و..إلى مخيم (الدهيشة) المجاور لبيت لحم، والذي عشت فيه مع أُسرتي بين 1948و1952.
يا طالما رويت للصديق الكبير الأستاذ مازن عن أيام جوعنا، ومشينا حفاة عراة ببطون جوعى دائما. كنت أُحزنه كلما سردت على مسامعه مكابداتنا في المخيم ..العيش تحت الخيام في الصيف المغبر، والخوض بأقدامنا الحافية في الشتاء الموحل القاسي، و..إنقاذنا بنقلنا من تحت تلك الخيام إلى بيت لحم، وتكديسنا في المسجد المقابل لكنيسة المهد، بعد أن دفن الثلج خيام مخيمنا، وتلكم الفتيات بملابسهن البيضاء وهن يدفئن أجسادنا بالماء الساخن، ويشبعن بطوننا بشوربة ساخنة، وأرغفة خبز سميكة يقسمنها بيننا نحن الأطفال الجوعى دائما...حنونات ونبيلات، وأيديهن تقطر رحمة وإنسانية.
أعادني النبأ الفاجع إلى بيت لحم، تحديدا إلى تلك الساحة الممتدة أمام كنيسة (المهد) التي ولد فيها السيد المسيح، والتي رويت لك يا أستاذ مازن كيف وقفت شبه عاري البدن لأتفرج على الرايات الملونة، والأولاد الذين كانوا يمشون بخطوات متناسقة منتظمة غير آبهين بالبرد ـ شو على بالهم ..فهم يرتدون ملابس تدفئ أجسادهم ـ بحماسة ينفخون في الأبواق، ويقرعون الطبول، والجموع المبتهجة تصفق لهم، وتحييهم بوجوه تفيض عافية وفرحا.
بعد سنوات عرفت أن ذلك كان ذلك احتفالا بأعياد الميلاد..ومن أين لنا نحن أطفال مخيم الدهيشة أن نعرف أعياد الميلاد!
كنت أقف على قدم واحدة، ثمّ أريحها بالقدم الثانية تخفيفا للبرودة التي تسري في بدني وترجفني، محاولاً التغلّب على البرد للاستمتاع بالمشهد الأخّاذ المبهر الذي لم أر مثله من قبل.
وإذ أراك حزينا، أروي لك كيف كنت أسرق أنا ورفاق الطفولة الأشقياء (التين) و(العنب) من كروم بيت لحم، وكيف كنّا (نجنن) حنا صاحب الكرم المجاور لنا، من جهة (الخضر) ..فيركض خلفنا، ونحن نلتهم كالجراد كل ما تطاله أيدينا من أشجار كرمه، فنأكل العجر، والناضج ..فتضحك بأسى، وبعد أن نتخفف من أحزان سنوات اللجوء الأولى بجوار بيت لحم، نستأنف حديثنا عن قضيتنا، ومأزق ثورتنا، والخلافات، والصراعات، والفردية، و( الأبوات)، والمظاهر في الفاكهاني.. بالمناسبة: أنت لم تكن (أبو...) أسوة بالأبوات كما هو شأن قيادات الثورة، وحتى أشباه القيادات، فأنت الأستاذ مازن..هكذا منذ عرفتك قبل أكثر من ثلاثين سنة .
بعد رحيل (الثورة) عن بيروت، لم نعد نلتقي إلاّ بالمناسبات، وتحديدا أثناء انعقاد دورات المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر.
في بيروت كنت أتردد على (دار القدس) في البناية التي استهدفت في الأيام الأولى للحرب على لبنان، مستهدفة الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية عام 1982..حيث كان مكتب (أبو إياد)، وصالة (الكرامة) التي كان أنشأها حديثا الفنان الكبير إسماعيل شموط...
تلك البناية استهدفت بالصواريخ الفراغية، والحمد لله أنك نجوت، وكذا صديقنا الفنان الكبير إسماعيل شموط، وابو إياد الذي كان مستهدفا، فتحسب للأمر وأخلى المكتب احتياطا..وأحسب أن البناية ما زالت ركاما، فهكذا شاهدتها قبل سنوات قليلة عندما زرت بيروت.
منذ تلقيت نبأ رحيلك، وأنا أضع أمامي أعدادا من مجلة (الجيل)، وأعيد قراءة افتتاحياتك التي تقدم عبرها رؤيتك لما يحدث(من شهر لشهر) مستعيدا أفكارك، ومواقفك، وبعض سيرة حياتك التي تختلط بسيرة أسرتك، والدك، وشقيقيك: الموسيقار الكبير رياض البندك، والسياسي البارز يوسف البندك..وبمدينتك (بيت لحم) التي منحتك النبل والأصالة، وطهر الإيمان وعمقه بفلسطين المقدسة الجديرة بالتضحية و( الافتداء) على طريق المُخلّص الذي ولد في بيت لحم، وحمل الصليب في تحديه لعنصرية المتعصبين المنغلقين حتى يومنا هذا..والذين ورثتهم في التعصب يعذبون شعبنا، ويشردونه...
توقفت، وقد عادت القيادة الفلسطينية للتفاوض من جديد، مع قادة الكيان الصهيوني، مع افتتاحيتك لعدد أُكتوبر 2010 والتي عنوانها في حديثك الشهري: عودة مسلسل المفاوضات للمفاوضات..وكأنك تتحدث عمّا يحدث راهنا، فقيادة السلطة لا تتعلّم من مسلسل المفاوضات الفاشلة، ومن تضييع القضية بمسيرة (أوسلو)..هنا أتوقف لأقتطف مقطعا من كلامك سيظل كافيا للحكم على كل مسيرة المفاوضات سابقا، وراهنا، ولاحقا: فقد جرّ الطرف الفلسطيني جرّا، وفي ظل ضغوط استثنائية ، وتحت تهديدات جدية، أهمها، أو أوحدها: التهديد الأمريكي، ومن ورائه الرباعيةـ إذا قررت أمريكاـ وقف كل صنوف الدعم المالي والسياسي للسلطة الفلسطينية .. وإلى جانب هذه الضغوط الكورس العربي المعروف الذي لا يجيد سوى النصيحة الذهبية للطرف الفلسطيني ومفادها: إذا كنت تريد ..إذا اذهب أنت وصاحبك فقاتلا، فإنّا ها هنا قاعدون..( الجيل، عدد أكتوبر 2010)
لم تتبوأ منصبا رفيعا في (المنظمة)، رغم أنك عضو مجلس وطني، ومناضل بصمت ودون ادعاء، وغير( متفرّغ) ..بمعنى أنك لا تتقاضى راتبا وموازنة من جهة تؤثر على استقلاليتك، ونزاهتك، ووطنيتك، وعروبتك، فأنت اخترت أن تعيش من جهدك ، ومن قدراتك الإعلامية، سواء من دار القدس، أو من مجلة 'الجيل'التي تألقت على مدى السنوات، ونافست مجلات عربية عريقة، واجتذبت أقلام خيرة المبدعين العرب، ووجدت لها حظوة لدى القراء العرب في كل أقطارهم، وحيثما أتيح لها أن تصلهم.
وبعد يا أستاذ مازن، فقد قلقت على مصير مجلة (الجيل) بعد رحيلك..ولكنني سررت وقد وجدتها قبل أيّام معروضة في واجهات مكتبات عمّان، وصورتك على غلافها، تحت العنوان الحزين: رحيل رئيس التحرير مازن البندك..وهكذا فقد تحاملت رفيقة دربك السيدة سونيا سلوم على أحزانها، واستأنفت إصدار( الجيل) وفاء للرسالة التي جمعتكما معا، والتي سيبقى 'قرّاء' الجيل أوفياء لها، لروحك، لفكرك، لفلسطين التي آمنت بتحريرها، للعروبة التي حملتك للتوجه من بيت لحم إلى مصر الناصرية لتعمل هناك في الإعلام الذي كان يتصدى للحملات المسعورة على المشروع النهضوي الناصري..ومن بعد إلى بيروت الشجاعة الجميلة التي احتضنت المقاومة الفلسطينية،..وإلى أن أزفت ساعة الرحيل بعيدا عن بيت لحم، ليدفن الجسد في ثرى بيروت، ولتحلق الروح في سماء بيت لحم...
23/3/2012
|