بـهـجــت أبــو غـربـيـــة: تـاريــخ انطــوى - صقر ابو فخر
|
بـهـجــت أبــو غـربـيـــة
من المحال أن يمر اسم بهجت أبو غربية في الذاكرة من دون أن يتداعى في الخاطر عالم بهي من تاريخ النضال القومي في فلسطين، وأن تلوح في الخيال أطياف متلألئة لرجال كان لهم شأن رفيع في تاريخ الأمة العربية. وبهجت أبو غربية الذي عارك الانكليز والصهيونيين والنظام الأردني في عهد الملك عبد الله الأول والملك حسين، عركته الأيام بقوة، وتحوّل بقوة المُثل التي اعتنقها وناضل في سبيلها، إلى مثال يزهو به كل من عرفه أو لازمه أو ناضل معه. على أن بهجت أبو غربية كان يتحلى بمناقب من المبادئ التي لم تتراجع أو تتراخَ أو تَلِنْ أمام المواقف الصعبة، فظل حتى آخر يوم من حياته واقفاً كسنديانة عتيقة، واخزاً كصبّار في الجليل، وطيباً مثل أعناب الكروم في الخليل. وقد كان من حسن أيامي أنني تعرفت إلى هذا المناضل في سبعينيات القرن العشرين، والتقيته مرات في بيروت، وتوليت تحرير الجزء الأول من مذكراته التي صدرت عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية بعنوان «في خضم النضال العربي الفلسطيني»، واكتشفت، بسرعة، كم أن أمثاله كانوا ملهِمين لجيل كامل أتى بعدهم، وقبس من سيرتهم، واتخذهم، في بعض الحالات، نبراساً له.
عاش بهجت أبو غربية ستاً وتسعين سنة بالتمام، فقد طحن قرناً من الزمن، ولم تتمكن السنون كلها من تطويع إرثه السياسي أو عزيمته الصلبة، وبقي إلى ما قبل سنتين تقريباً حاضراً في أي جهد في سبيل فلسطين وحرية شعبه وتحرير وطنه.
ولد بهجت أبو غربية في خان يونس سنة 1916 لوالد من الخليل مولود في الزقازيق، ولأم من أتراك صربيا الذين وجدوا في فلسطين وطناً لهم بعد حرب البلقان. أما والده الذي ترأس الجمعية الإسلامية ـ المسيحية في الخليل سنة 1921 فقدّم شهيدين هما ولداه صبحي وشفيق، علاوة على أحد أشقائه. أما ابنه بهجت فقد صار حكاية من حكايات الشجاعة في أثناء معارك القدس سنة 1948. ولا غرو في ذلك، إذ إن وعيه تفتح على ثورة البراق في سنة 1929، وعلى إعدام الشهداء الثلاثة في 16/6/1930، وكان من بينهم خليليان هما عطا الزير ومحمد جمجوم. أما فؤاد حجازي، ثالثهم، فكان صفدياً. ثم إن عز الدين القسام نفسه كان صديقاً لشقيقه رشاد أبو غربية في حيفا، وكثيراً ما زاره في المنزل وجلس إلى بهجت يحدثه في شؤون الوطن. وأبعد من ذلك، فإن أساتذته أمثال عارف البديري وحسن عرفات ومحمود الكرمي وحسن الكرمي ووصفي عنبتاوي
كانوا يطلبون من تلاميذهم ألا يستعملوا كلمة فلسطين أو شرق الأردن إلا عند الضرورة، بل عليهم استعمال عبارة «سورية الجنوبية».
في هذه الأجواء شب بهجت أبو غربية، وانخرط مثل معظم أبناء جيله في النضال الوطني، وأسس مع عدد من رفاقه في سنة 1934 مجموعة «الحرية» التي قدمت بعض الشهداء أمثال عبد الحفيظ بركات وسامي الأنصاري وصبحي بركات، ثم انضمت إلى جيش الجهاد المقدس، وقاتل جميع أفرادها في القدس والخليل ونظموا الدفاع عن أحياء المصرارة وسعد وسْعيد وباب الساهرة والشيخ جرّاح، ونفذوا عمليات كبيرة مثل نسف شارع هاسوليل وشارع بن يهودا في القدس، واغتيال قائد شرطة القدس ألان سيكرست. وفي خضم ذلك كله أصيب بجروح خمس مرات.
بعد سقوط فلسطين في سنة 1948، عمد إلى تجميع السلاح وإخفائه في مخابئ سرية في القدس. وقادته أجواء السياسية آنذاك إلى حزب البعث العربي الاشتراكي. وفي تلك الأثناء اعتقل ونفي إلى الشوبك جراء صلاته ببعض الذين اغتالوا الملك عبد الله في سنة 1951، ثم عاش متخفياً نحو سنتين بعد إعلان الأحكام العرفية في سنة 1957. لكنه لم يلبث أن انسحب من المؤتمر القومي لحزب البعث سنة 1959 بسبب المواقف الناقدة لجمال عبد الناصر وللوحدة السورية ـ المصرية، وشكل مع رفاقه المنسحبين «حزب البعث الثوري» الذي تلاشى فور تأسيسه.
كان عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني الأول (القدس 1964) الذي انبثقت منه منظمة التحرير الفلسطينية، واختير عضواً في أول لجنة تنفيذية للمنظمة، وشارك بهذه الصفة في تأسيس جيش التحرير الفلسطيني وقوات التحرير الشعبية. وفي سنة 1969 انضم إلى جبهة النضال الشعبي الفلسطيني التي أسسها صبحي غوشة وعدد من ابناء القدس في 15/7/1967، وصار ممثلاً لها في منظمة التحرير.
بغياب بهجت أبو غربية ينطوي قرن من الزمان تقريباً تغير فيه العالم برمته. لقد ولد أبو غربية إبان الحرب العالمية الأولى، وقبــيل خروج الأتراك من فلسطين، وها هي قضية فلسطين، والعالم العربي كله، تعانق القرن الحادي والعشرين وما زالت الحرية غاية صعبة المنال، بينما العالم العربي يشتعل بتحولات من الصعب إدراك تفاعلاتها تماماً. وفي معمعان هذا الحريق يرحل بهجت أبو غربية ولم يبق من جيله أحد على الأرجح.
توفي بهجت أبو غربية في عمان في 26/1/2012، وقد نعاه المؤتمر القومي العربي باعتباره أحد أعضائه المؤسسين.
2/2/2012
|