المفردات تصبح أحياناً موجعة، فهي تخفي في داخلها ذاكرة تظن أحياناً أنها نائمة، أو أنها تعوّدت النسيان، لكنها في غفلة من وعينا، لحظة الرحيل، تستفيق فجأة، تنزلق منها مفردة محملة بكل الألم.
اليرموك | خرج جارنا الخمسيني من منزله باكياً، وعلى نحو بديهي توجهت إليه معزياً بأمه، محاولاً التخفيف عنه بالمعتاد من الكلمات، فقد كانت في غيبوبة منذ ما يقارب ستة أشهر.
قال لي: «الله يرحمها ارتاحت من عذابها وريحتنا، بس ليش تحرقلي قلبي قبل ما تموت؟». أسأله خير يا أبو محمد؟ فيجيب: «فتحت عينيها، هرعت إليها مقبّلاً يديها وقدميها: شو بدك يمّا أؤمري؟ قالت: يما فش وقت، جيب تكسي بسرعة، بدي أنزل على فلسطين هلق. أغمضت عينيها ودخلت في الغياب.... ماتت».
صراع الذكريات يخِزك في القلب عندما تجتاحك «كالبضائع المهربة». جدي وقصصه في تلك اللحظة اقتحموا علي الدموع التي أيقظتهم، الناصرة، الضفة الغربية، الضفة الشرقية، حوران، دمشق، خيم اللاجئين، سلسلة متتابعة من الأفكار المرتبة كيفما شاءت النكبة، وربما كما أرادت لها روايات جدي أن تكون، كلماتهم لا تبارح تفكيرك كلما فقدت أحدهم، كأنك ودعت أحد أعظم الروائيين الواقعيين، الذين لن تقابلهم في مقاهي دمشق أو بيروت.
الكبار الذين عاصروا النكبتين، لم يفقدوا يوماً الأمنية أو الأمل في أن يعودوا فقط ليُدفنوا في مساقط رؤوسهم، كلما ابتدأوا بقص روايتهم عليك، عرفت أن طرق النكبة مختلفة، قد يعبر أحدها نهر الأردن، وقد يجتاز آخر رأس الناقورة.
متن الرواية متشابه: «اللجوء» عنوانه الأزلي، لكنّ تفاصيل عذابه تختلف. كل رواياتهم تحمل الخاتمة نفسها التي تقول «والله ما بدي إشي هلق من هالدنيا إلا إني أرجع، وبدفنونني بفلسطين».
إذا كان الموت لا يحب الانتظار، فإن عودتهم كذلك لا تطيق الانتظار، فتراهم في الهزيع الأخير من العمر يأبون إلا أن يعيشوا في بلادهم التي أخرجوا منها.
جدي المعروف بأبو عزام الساعاتي، لم يمهله الموت لأحقق له ما أيقظني لأجله في الثلث الأخير ذات ليل اعتاد أن يصليه، ليقف بعد ركعته الأخيرة ويطلب أن أخرج منذ الخيط الأول للفجر، فأحضر الرجال والعدة والعتاد لمواجهة الصهاينة الذين احتلوا الحارة الشرقية، قبل أن يكملوا احتلال ما تبقى من الناصرة.
ناصرة جدي في الشهر الأخير قبل وفاته، عاشت في شوارع وأزقة وأشجار المخيم، يبحث في ثنايا ذاكرته عن جاد والياس جريش، صديقي الطفولة والشباب اللذين لم يفارقاه مذ وعيه، لم أرهما، لكنني استطعت أن أرسم من كلماته لكل منهما صورة في الذاكرة.
جدي لا يستطيع أن يخرج جهاراً في شوارع الناصرة، فالإنكليز يبحثون عنه بعدما ربط الجنرال البريطاني بمؤخرة دراجته النارية، وجره في شوارع الناصرة. الناصرة التي خرج منها ومات، وما زال اسمه مطلوباً في لائحة الإرهاب، فنقشنا في ورقة نعيه «المجاهد» أبو عزام.
ناصرة جدي تسكنني، حفظت كل شوارعها، ومآذنها وكنائسها، قبّلت حجارة منزلنا حجراً حجراً، ومات جدي وورثت عنه أمله وأمنيته. قرع الذكريات في عقلي، ليس بأقل منه قرع أجراس كنيسة البشارة في مخيلتي، وطفولة المسيح عليه السلام في شوارع الناصرة، لا تختلف عن طفولة جدي في مساجدها، ودرب آلام الناصري حاملاً صليبه، يمشيه العائدون اليوم حاملين أعباء جمل المحامل.
غاب عام، غاب نهار آخر، «غربتنا طالت يوماً واقتربت عودتنا يوماً». سأحمل هذا العبء وأمشي، فيا يسوع أنا أيضاً ناصري، وإذا كانت نهايتي تنتظرني فوق الصليب، فلينتظرني صليبي على الجلجلة في أورشليم لا في منفاي.
عن جريدة الأخبار
13/01/2012
|