أن تزور عكّا دون أن تُعرّج على سوقها القديمة، وخليجها الرائع، وجامع الجزار، والسجن الذي شهد إعدام ثلاثة أبطال، خلّدتهم قصيدةٌ وزنزانةٌ ومشنقة، فمعنى ذلك أنّك لم تَرَ شيئاً في تلك المدينة الساحرة.
وأن تزور كلّ هذه الأماكن وغيرها أو بعضها، دون أن يرافقك شخص ودودٌ كمثلِ الكاتب والأديب أنطوان شلحت، فمعنى ذلك أنّك خسرت أشياءً كثيرة، وباتت زيارتك منقوضة الوضوء بلا شكّ.مجرد أن تطأ قدماك أسواقها، تشعر بعبق التاريخ وعظمة الآباء والأجداد، وتبهرك القناطر والأسواق الحجريّة المتراصّة، بعضها تهالك، وجزءٌ منها جرى ترميمه. الخانات تنتشر فيها بكثرة، منها ما تم إعماره وإشغاله، ومنها ما تُرك للنفايات وبقايا الغبار والأتربة. القلوب تظل مقبوضةً حزينة على ماضٍ تولّى، وشكٌّ يصل إلى حدّ اليقين، أنه لن يعود مرّة ثانية. تبكي كل جوارحك غيظاً وألماً وكمداً وحسرة، كيف ضاعت تلك الربوع؟! وأصبحنا نتجوّل فيها كالغرباء!
رائحة زنخ السمك تزكم الأنوف، أنواع عديدة منها معروضة في السوق، مطاعم حمّص وفول وفلافل، بقّالات عطّارين تراصّت على مداخلها أكياس الحبوب، تشعر انك في أسواق القدس القديمة، أو خان التجار في مدينة نابلس، تعيش أجواء عربية صرفة، الأصوات المتعالية، تحايا الصباح، لوحات انتشرت بكثرة كُتبت عليها عباراتٌ دينية، تحلّق في وسط تلك الأجواء، فتنسى كلّ شيء، ولا تفيق إلاّ في جامع الجزار.
تدخل المسجد بصعود درجه العلوي، على يمينك سُقيا ماء تشير إلى فعلٍ ماضٍ وتاريخ راح، وما أن تدخل حتى تُبهرك الحديقة الغنّاء بأشجارها الجميلة، وأزهارها الفوّاحة، وورودها العبقة، وطيورها المغرّدة، وتلك التي أضفت أصواتُها لحناً جميلاً زاد المكان روعة وتألقاً وحسناً وبهاء.
في المسجد الجميل، الضارب في العراقة، بدت آيات من القرآن الكريم طوّقت الجهات الأربع بزخرفة رائعة، وألوان بديعة، ذكّرتني بزخرفة مسجد قبّة الصخرة المُشرّفة في قدسنا السليبة.
سائحون أتراك، بدوا منبهرين بالمكان، وأخذوا يستزيدون معرفةً، فانبريت أنا وصديقي الكاتب تحسين يقين نشرح لهم ما أسعفتنا اللغة والذاكرة، فكُنّا أشبه بدليلين سياحيين متطوّعين، فيما انبرى صديقنا أحمد الخطيب يلتقط الصور على جوّاله، فيما غطّت كاميراتي الخاصة في سبات عميق، بعد أن خذلتني ولم تعد تقوى على الحركة، وتوقّف نبضها بسبب ضعف حجريها اللذين تهالكا من كثرة الشّحن.
ما أن اقتربنا من سور عكّا، الذي ردّ نابليون على أعقابه خاسراً ذات يوم، حتى أخذ صديقنا ومرافقنا الكاتب أنطوان شلحت استراحةً، فقد كان طوال الطريق يُلقي التحايا ويُحيّى بأحسن منها، ويُرحّب بهذا وذاك، وحظينا بصحبته باحترام كبير، فهو شخص معروف ومحبوب، كان يتهافت الكثيرون على السلام عليه والاستفسار عن ضيوفه. فجأةً وإذا بنا ودون مقدمات، نطلّ على البحر الذي كان موجه قوياً، يتلاطم في سور عكا الذي لم يُعرْ له بالاً إطلاقاً.
تذكرت المثل الشعبي الذي يقول: (لو خافت عكا من هدير البحر ما سكنت جنبه). بقيت مُحملقاً في أمواج خليج عكا الهادرة، وفي القلب غصّة، وظلّ الفكر يسرح في السور والسوق وماضٍ (على الله ايعود).
كاتب وشاعر فلسطيني يقيم في رام الله
25/11/2011
|