خليل كلاس في فلسطين 1948
وصل أول فوج من مجاهدي حماه إلى دمشق بتاريخ 18 كانون الأول 1947، فاعترضت السلطات طريقهم، ومنعتهم من دخولها. وكان اسم الفوج «فرقة بدر» وهي فرقة من ثمانين شابا من أبطال حوادث أيار (ثورة 1945)، وكل منهم مسلح بأتم السلاح وأكمل العتاد على نفقته الخاصة.. وكانت صفوف المجاهدين الأبرار بدأت ترد على المكتبة الخيرية المتخذة مقرا لهم في حماه، وعلى عواتقهم بنادقهم، وتلفهم أحزمة الرصاص والقنابل اليدوية، وتملأ نظراتهم الشجاعة والتضحية اللتان اتصف بهما شباب حماه.. وما أن التأم الفوج حتى غصت ساحة العاصي بالمودعين من رجال ونساء، وتوقفت حركة السير، وخاصة عندما ركب المجاهدون سياراتهم الثلاث الكبيرة، وشرع الناس يهللون ويكبرون والنساء يزغردن: لعينيك يا فلسطين.. وقد بلغت أصوات المودعين المهللة عنان السماء في ساحة العاصي معلنة حركة الجهاد الأولى من المدينة التي برهنت على تقديمها الضحايا الأولى في معارك الجهاد.. وقد خطب الشيخ محمد الحامد في الجمهور فشبه هذه الفرقة بفرقة بدر التي جهزها الرسول الأعظم لقتال الأعداء».
وعندما عجزت الحكومة عن منع مجاهدي «فرقة بدر» من دخول دمشق، ولما لم تر بدا حيال إصرارهم، وجدت الحل الوحيد أن تسمح لهم بالمرور بدمشق شريطة أن يذهبوا إلى معسكر قطنا
وفي 21 كانون الأول «غادرت مدينة حماه فرقة سعيد العاص بالزغاريد والأهازيج الوطنية مع التهليل والتكبير من النساء والرجال المزدحمة بهم ساحة العاصي، وقد ألقى بعض الشباب خطابات حماسية في الجماهير فانطلقوا يحيون عروبة فلسطين والمجاهدين الأبرار... وتتألف الفرقة من سبعين شابا على رأسهم الشاب المسيحي خليل الكلاس أمين سر حزب الشباب، وهم مجهزون بأسلحتهم الكاملة من بنادق وميتراليوزات».
لقد كانوا يمثلون الشعب على مختلف فئاته وهيئاته وطبقاته ومستوياته، منهم من اشترك في ثورة فلسطين عام 1936، ومنهم من شارك في ثورة رشيد عالي الكيلاني عام 1941 التي كان من دوافعها الرئيسية تحرير فلسطين، ومنهم من قاتل الفرنسيين في ثورة حماه عام 1945، وبعضهم ممن لم يسبق له أن حمل بندقية.
غادرت دمشق إلى معسكر قطنا بعد أن اشتريت بندقية فرنسية طويلة عتيقة، مع بعض الذخيرة، كما اشتريت من مخلفات جيوش الحلفاء معطفا مبطنا بفرو اصطناعي لأتقي البرد القارس في ذلك الشتاء... وقد احتفى بي ضباط المعسكر، وكنت أقضي النهار مع إخواني في التدريبات القاسية ودروس الرماية، وأقضي السهرة مع الضباط في ناديهم، نتسامر ونتحدث عن قضية فلسطين وخطورة الهجمة الصهيونية الاستعمارية والنتائج التي ستترتب عليها في المستقبل. وكان الضباط الشباب الملتهبون بالحماسة يصغون لأقوالي بشوق الأرض العطشى للمطر.
ومن طرائف تلك الفترة أذكر الحادثة التالية: انتسب إلى الكلية العسكرية في حمص ابن المجاهد المغربي عبد الكريم الخطابي فكان رفيقنا الأستاذ نخلة كلاس يحبه ويرعاه وقد جاءا معا لزيارتنا في المعسكر، وفي اليوم الثاني أتى من يخبرني بأن الأمير عبد الكريم الخطابي قادم لزيارتنا، فرأيت من واجبي أن ألقاه خارج نادي الضباط، فوجدت رجلاً ضخماً يرتدي الثياب المغربية المعروفة فعانقته بحماسة قائلا: مرحبا بالأمير الخطابي، فقال لي: «أنا الشيخ الكتاني». فشعرت بالمفاجأة المذهلة وكأن سطل ماء بارد سكب عليّ. فقد كنت أمقت هذا الشخص للشبهات التي كانت تحوم حوله ولا سيما في قضية اغتيال المرحوم الدكتور الشهبندر.
قضينا أسبوعين في معسكر التدريب نتمرن على الرماية وإلقاء القنابل والتدريبات العسكرية المألوفة، ورغم ما كان يحز في نفوسنا من التقصير والإهمال والفوضى في المعسكر، فإننا قضينا فيه أكثر من خمسة عشر يوما تعتبر من أروع أيام العمر نشوة وفرحا واستبشارا: جو طاهر نظيف غسل نفوسنا وجعلنا بحكم الشخص الواحد نتوجه جميعا نحو الهدف أنقياء أبرياء تغمرنا محبة المواطنين وتشجيعهم وتهليلهم. وكان مما يزيد في فرحنا واستبشارنا أن فرق المتطوعين بدأت تتشكل في سوريا وتفد إلى المعسكر تباعا. فقد التحق بنا عدد من مجاهدي حمص، على رأسهم الحاج حفني، وعبد الكريم الرمضون ورفاقهما. كما التحق بنا من حلب إبراهيم الشهبندر وعمر الحلبي ورفاقهما وهما من حزب الشباب وقبل أن نغادر المعسكر بأيام انضم إلينا الدكتور عبد السلام العجيلي نائب الرقة، وشيئا فشيئا ازداد عددنا إلى ما يقارب ثلاثمائة فدائي بعد أن انضم إلينا تباعا عدد من الطلاب والأطباء، كشوقي الأتاسي من حمص بالإضافة إلى من التحق بنا من الضباط الشباب أذكر منهم الملازم فتحي الأتاسي (الشهيد) والملازم شفيق العبيسي (الشهيد) والملازم عبد الحميد السراج والملازم محمد جديد (الشهيد) والمقدم أديب الشيشكلي، وبعد دخولنا إلى الجليل بشهرين التحق بنا حسين الرفاعي الضابط المتقاعد في الدرك، ثم التحق بنا فوج من أبناء إدلب وأريحا بقيادة النائب غالب العياشي.
التوجه إلى فلسطين
في مطلع كانون الثاني 1948 أجرى الشيشكلي تجربة استنفارنا للتوجه إلى فلسطين كعملية تمويه واختبار للانضباط والنظام، وبعد أيام استنفرنا وتوجهنا فعلا إلى فلسطين.
من جبل إلى واد، إلى جبل آخر، كانت فسوطة التي تقع على قمة الجبل أول قرية دخلناها في فلسطين، فتلقانا أهلها بالترحيب الحاد، واستضافونا في بيوتهم فقضينا ليلة دافئة بعد ما عانيناه من الجوع والسهر والتعب.
منذ اليوم الأول شاهدت على الطبيعة أن جبال الجليل هي امتداد طبيعي لجبال لبنان وجبال اللاذقية، فهي سلسلة جبلية واحدة تمتد من لواء إسكندرون إلى جنوب فلسطين بمحاذاة الساحل، إنها تشبه بعضها بعضا تشابها يكاد يكون كاملا بطبيعتها ومناخها وأحوال سكانها الزراعية والاقتصادية والمعاشية، فزراعة التبغ في فسوطة وزراعة الزيتون والفواكه في الجليل هما مصدر المعيشة الرئيسيان كما هو الحال في جبال اللاذقية، ولكن مستوى معيشة الفلاح في الجليل كان أعلى من مستوى معيشة الفرد السوري.
أيام في سحماتا
في سحماتا بدأت ترد إلينا بعض الوفود على نطاق محدود من أبناء القرى المجاورة وقد شعرنا من خلال الأحاديث ما ينبئ بالانقسامات التي تسود منطقة الجليل محليا وعربيا، فأكدنا للأهالي بأننا لا ننتمي للهيئة العربية العليا، ولا لقيادة القاوقجي، وليس لنا أية علاقة بالخلافات المحلية التي حدثت في الماضي، وكنا نؤكد على ضرورة وحدة الصف وتناسي الخلافات، والتوجه للمعركة والاستعداد لها، كما كنا نبصرهم بالعواقب الوخيمة التي ستحل بالعرب عامة وبهم خاصة إذا لم يعدوا أنفسهم لهذه المعركة، وكنت أشير إلى أن اليهود إذا ظفروا فإنهم سيستولون على كل هذه القرى فيطردوا أهلها ويعملوا بهم قتلا وتشريدا.. كنت أصور لهم المأساة التي وقعت فعلا فيما بعد، فكانت الدهشة ترتسم على وجوههم. وكنت أسمع منهم بعد كل حديث جوابا واحدا وبصوت واحد: «ما بيسترجوش». فقد كان راسخا في نفوسهم احتقار اليهود وازدراؤهم، كما كانوا واثقين من أن اليهود لن يحتملوا أية مواجهة مع العرب لأنهم كانوا يسمعون آناء الليل وأطراف النهار الدعايات التي ترددها الإذاعات العربية عن تأييد العالم العربي والإسلامي لهم.
عقد أديب الشيشكلي أول اجتماع عسكري للقيادة في حرفيش وأطلعنا على خطة الاستيلاء على قلعة جدين، وكانت خطة عسكرية مدروسة ومبنية على المعلومات الدقيقة التي جمعها أديب عن أحوال سكان تلك المستعمرة الذين كان من عادتهم أن يخرجوا باكرا جدا وقبل طلوع الشمس من القلعة إلى عملهم في الحقول والكروم المحيطة بها، فعهد إلى الملازم الطيار عمر صفر على رأس فريق بالتسلل تحت جنح الظلام إلى قرب القلعة حيث ينتظر خروج الصهاينة منها فيبدأ هجومه من الجنوب ليحول دون ارتدادهم إلى القلعة، وكان على فريقنا بقيادة أديب أن نسلك طريق طرشيحا ونلبث متربصين في السفح الجبلي المطل على القلعة من الشمال ولا نبدأ هجومنا إلا بعد أن يشتبك فريق عمر صفر مع اليهود.
وقد أناط الشيشكلي بالملازم عبد الحميد السراج قيادة الكمين على طريق تموين وإمداد قلعة جدين.
تم تنفيذ الخطة على النحو المرسوم فانطلق الملازم عمر صفر مع أبو إبراهيم الصغير بمجموعته ليلا متجنبا المرور في القرى.
وعندما سمع إخواننا إطلاق النار بدأوا هجومهم على القلعة من سفح مكسو بالأشجار، وكان أديب الشيشكلي في طليعة المهاجمين... كانت دريئاتنا من نيران العدو الكثيفة تلك الشجيرات الصغيرة حتى وصلنا إلى قرب القلعة، وهي تقع في سهل مكشوف وعندها أدركنا أن فريق الملازم عمر صفر قد فشل في تنفيذ مهمته، وعرفنا أن سبب إخفاقه يعود أولاً لعدم جرأة أبو إبراهيم الصغير في الاقتحام السريع للحيلولة دون رجوع اليهود إلى القلعة، ولأن المجاهدين بادروا بإطلاق النار قبل أن يصلوا إلى أبواب القلعة مما نبه الصهاينة وجعلهم يعودون إليها ويتحصنون فيها.
بعد الظهيرة انتهت المعركة وتراجعنا إلى المرتفعات التي تشرف على القلعة عندما خفت قوات الجيش البريطاني لنجدة سكانها.
كان مستوى الرماية والتصويب لدى القناصة اليهود على درجة عالية جدا، فقد كان في كل مستعمرة عدد من القناصة والرماة الماهرين.
تركنا في أرض المعركة قريبا من أبواب القلعة جريحا من حماه من عائلة السراقبي، كان يستغيث بصوت يفتت القلوب وقد حاولنا سحبه من أرض المعركة ولكن الصهاينة جعلوا منه مصيدة فجرح اثنان من رفاقنا في هذه المحاولة الفاشلة.
كان التوفيق الذي أصبناه في هذه العملية الكمين الذي نصبه الملازم عبد الحميد السراج عندما قدمت مصفحتان من نهاريا لنجدة الحامية اليهودية فما إن توقفتا عند الخندق حتى أصلاهما المجاهدون نارا حامية بالرشاشات والقنابل اليدوية فأحرقوهما بجميع من فيهما.
أما خسائرنا فكانت الشهيد حمود السراقبي الذي اضطررنا لتركه في أرض المعركة، وعددا من الجرحى بينهم علي الحريري وزيد الحريري وآخرين قام أطباؤنا بإجراء الإسعافات الأولية لهم، بعد نقلهم إلى طرشيحا. ثم اصطحبهم الدكتور فيصل الركبي إلى مستشفى صور الذي يقوم عليه الدكتور الجراح سعد الدين الخليل.
* أنظر «مذكرات أكرم الحوراني»، القاهرة: مكتبة مدبولي، 2000.
السفير - فلسطين
العدد 15 - السنة الثانية
06/08/2011
|