أحمد الشقيري: واحد من روّاد أدب (الرحلة).. - رشاد أبو شاور
|
عُرف الأستاذ أحمد الشقيري كمحام لامع في فلسطين قبل النكبة، وكشخصيّة وطنيّة لمعت في عمر مبكّر، وكدبلوماسي بارع في الأمم المتحدة ينافح عن قضايا العرب، مشرقا ومغربا، ممثلاً لسورية، والسعودية، ثمّ كمؤسس لمنظمة التحرير الفلسطينيّة، وكخطيب لا يشّق له غبار، يمزج الثقافة الواسعة والمعرفة العميقة بالتاريخ العربي، وبتاريخ كفاح شعوب وأمم العالم، وتاريخ فلسطين الحديث والقديم، وككاتب للمذكرات السياسيّة نادر المثال بين القادة والزعماء العرب، وهذا ما استوقف الدكتور أنيس صايغ الذي كتب عنه في مقدمته لأعمال الشقيري الكاملة: إلاّ أن فنا معينا تفوّق فيه أحمد الشقيري على نفسه وعلى غيره من السياسيين والكتّاب العرب، وعلى المثقفين بوجه عام، إنه فن السيرة الذاتية. إن كتبه الثلاثة في تأريخ حياته وأعماله هي، برأيي، الثالثة بعد الأيام لطه حسين، وحياتي لأحمد أمين، وهما سيدا السيرة الذاتية، وإن تفوّق العملان الرائدان في التصوير الأدبي الفنّي، فقد تفوّقت كتب الشقيري في الوصف السياسي العملي (المجلّد الأوّل ص15).
كانت مفاجأة لي، وربما لغيري، أن المجلّد الأوّل من الأعمال الكاملة للأستاذ أحمد الشقيري ضمّ كتابا مجهولاً، لم أكن قد أطلعت عليه، ولم أكن قد سمعت به، وهو كتاب: من القدس إلى واشنطن.
يصف الشقيري كتابه بأنه: خواطر المؤلف حين سافر إلى أمريكا لتأسيس المكتب العربي.
أمّا السفر فكان في شهر تموّز عام 1945، والكتاب صدر في العام 1947 عن مطبعة السروجي في عكا.
دهشت وأنا أقرأ الفصل الأوّل- والفصول كلّها قصيرة، مكثفة، ليس فيها ثرثرة وإطالة- المُعنون بـ( من البحر الميّت إلى النيل)، ذلك أنني لأوّل مرّة أسمع عن إقلاع طائرات تقل المسافرين من البحر الميّت إلى نهر النيل في مصر!
يصف الأستاذ الشقيري بدء سفره، وقلقه من السفر البعيد إلى العاصمة الأمريكيّة واشنطن لتأسيس المكتب العربي للإعلام: فنحن نتهيّب الأسفار البعيدة، ذلك أننا لم نألف أن نرى الدنيا صغيرة متقاربة، على حين أن الرجل الأجنبي يطوف العالم كأنه يؤدي عملاً عاديّا لا يحس فيه جهدا ولا رهقا( ص9 )
يصف هبوط السيّارة بالمسافرين من القدس إلى الأغوار حيث البحر الميّت: أخذنا نهبط من مشارف القدس إلى أغوار( الغور)، تلهبنا الرياح المحمولة على أكف الوهج والوقد. ويضيف: وكنّا في طريقنا نشاهد السيارات الكبيرة تحمل وسوق المعادن المستخرجة من البحر الميّت، بعد أن بقيت في جوفه أجيالاً. حقا لقد كان البحر ميتا، وإنه من الإسراف في الظلم أن نسميه الميّت، وهذه المعادن الحيّة تخرج من جوفه الأبدي، فتبدو خصائصها في الحياة والموت.( ص9)
وعن رحلته الأولى في الطائرة يكتب: ركبنا الطائرة المائيّة من قاعدتها في البحر الميت، وكانت أول خبرتي بركوب الطائرة من قواعد الماء واليابسة على السواء، ولعلّ المستقبل يطالبنا بقواعد في الهواء، وكدت أن أكون راجفا واجفا حين رأيتني أجتاز متون الفضاء، والتمست شجاعتي أبحث عنها في أعماق نفسي، وأوشكت أن تخونني لولا أني رأيت بعض السيدات والأطفال يقتعدون أماكنهم برصانة وهدوء، فقعدت وتصابرت( ص9)
نبوءة الشقيري بقواعد في الجو تحققت، فها هي المركبات الفضائية تدور في هذا الكون الفسيح، تنقل الصور عن المجرّات البعيدة المجهولة...
تحط الطائرة في النيل، وينتقل إلى فندق ( شبرد) في القاهرة، ثم ينتقل إلى بنغازي في ليبيا، فيصف لعب العاصفة بالطائرة: وظلّت الطائرة تمزّق سكون الفضاء من غير ارتجاج أو اهتزاز حتى أقبلت علينا عاصفة ثائرة لعبت بالطائرة لعب مارد متجبّر، وغدت الطائرة التي كانت حتى الآن تسيطر على الجو وتمزّق آفاقه موضع عبث وسخريّة بين أيدي العاصف الجبّار.. وهبطنا في بنغازي في أعقاب الليل فشملتنا رهبة المكان الذي تداولته الجيوش المتحاربة مرّات ومرّات (ص13)
وعن رحلته إلى واشنطن يتساءل، وهو يعبر سماء بلاد العرب: ولكن خاطرا واحدا أقضّ مضجعي لم أجد له تعزية ولا تسلية، ذلك أن هذه الرحلة كلها، من البحر الميت حتى شمال أفريقيا، قد كشفت عن مطارات ومطارات، مرصعة في الصحراء، وعلى مقربة من المدن، آخذة بالنمو والازدياد. هنا في مواطن العرب مطارات تُنشأ وتبنى، وأنا ذاهب لأنشئ مكتبا عربيّا في واشنطن، أحرّك فيه لساني وقلمي، أنا أُعنى بالكلام ليسمعوا، وهم يمضون في إقامة القلاع والحصون ..( ص17) .
تمضي به الطائرة في سماء المحيط، فيصف الرحلة الطويلة المخوفة: أخذت الطائرة تجوز بنا أطباق الفضاء في ليل رهيب فوق بحر مخوف انقطعت في سمائه كل معاني الأنس، فأبدلت بظلمات الوحشة والرهبة. والرحلة تستغرق ثلاث عشرة ساعة متمادية، وقد توسطتها عاصفة مدلهمة رجرجت الطائرة من غير رحمة ورفق، وأنذرنا الضابط بأن نأخذ الحذر لأنفسنا فزاد ذلك من دهشتنا وخوفنا. وحين رأينا الجنود العائدين من ميادين الحرب يقطبون جباههم، وقد غاضت أشواقهم للأهل والوطن، فقد ازدادت مخاوفنا، وطافت نفوسنا مذعورةً في كل مجالي الفكر وآفاق الزمن.. ( ص24)
ولأن السفر يزوّد الإنسان بمعرفة جديدة، ويدفعه للتفكير والتأمّل، فإن الأستاذ الشقيري الحسّاس للجمال، والوطني الغيور، وبعد الهبوط في مطار (برسك) في شمال الولايات المتحدة.. يكتب: ..ركبنا السيارة لنطوف في شوارع هذه القرية التي قيل لنا أنها قرية، استغفر الله بل إن هذا هو الفردوس الذي فقده الفلاسفة والشعراء، وها هو جاثم في هذه الروضة، وقد أحاطت به المروج الجميلة، وأطلّت عليها الهضاب المكسوة بالفتنة والدلال( ص27)
ويمعن الشقيري في وصف تلك القرية- الجنّة: ولله ما أجمل هذه البيوت المنسقة أبدع تنسيق، لكل منها حديقته الزاهرة، ومرجه الوادع، وملعبه الذي يمرح فيه الأطفال، ومن حولهم وطن يقدّم بين أيديهم مفاتنه وحسنه، ليقدموا بين يديه دمهم وشبابهم ( ص27)
ولأن الشقيري يعرف جوهر المواطنة والانتماء لوطن حقيقي يمنح الإنسان الحرية والكرامة، فإنه يكتب: هناك عرفت لم يستبسل هؤلاء الناس من أجل وطنهم، فليسوا حين يدعون إلى ركوب البحر والجو، يحاربون عن وطن جامد جاحد، ولكنهم يبادلون الوطن ما قدّم لهم في الطفولة والصبا من نعماء الحياة..( ص27)
ألا تصيبنا الحسرة ونحن نقرأ هذه الكلمات بما تختزنه من تشخيص لواقع حالنا نحن المواطنين العرب الغرباء في أوطاننا؟!
بلادنا جميلة وغنية بثرواتها، ونحن محرومون من خيرها وجمالها، والأوطان ليست نشيدا وعلما.. إنها مواطنة للجميع، لا لحفنة من الناس، يأخذون كل شيء، ويطالبون ( المواطنين) بالتضحية والموت!
يصف الشقيري ما يشاهد من غريب فن العمارة في نيويورك، إذ يقف مأخوذا أمام ناطحات السحاب: وحين عدت إلى الأوتيل بين العمارات المتناطحة وقفت إلى جانب واحدة منها أحاول أن أبلغ ببصري أعلاها فخُيّل إلى أن راسي قد دار حول كتفي، وأن كتفي قد أخذا يميسان في الهواء ( ص29)
في فصل ( النبأ الرهيب) ، ينقل الشقيري صدى قصف هيروشيما يالقنبلة الذريّة: أفاق العالم صبيحة هذا اليوم والنبأ الرهيب يدوّي في الآذان، ويذهل البصائر والأبصار.. القنبلة الذرية التي قذفت على المدينة اليابانية فصهرتها وأرجفتها إلى الأعماق، ثمّ أفشت في كل آفاقها حشودا من الموت والنار والكيمياء ( ص 35)
ويضيف عن حال اليابان، بفصل صغير أقّل من صفحة بعنوان ( اليابان تجثو): قنبلتان أنزلتا شللاً عاما في أمة بكاملها فجاءت تطلب السلم من غير قيد ولا شرط، وانقلب معبودها عبدا، وسيدها مسودا، وقائدها مقودا، وللعلم على الحريّة آفات وآفات!
تلك كانت واحدة من آفات العالم التي ما زالت تتهدد أمن البشرية جمعاء، والتي وإن لم تستعمل مرّة ثانية بعد هيروشيما.
للعلم آفات وتلك أبشعها، خاصة وأنها لم تكن ضرورية فاليابان كانت متعبة من الحرب وعلى وشك الاستسلام، وهو ما ينقله الشقيري على ألسنة أمريكيين فجعتهم تلك الجريمة غير المسبوقة في تاريخ البشرية!
لم تكن رحلة الشقيري لأمريكا للاستمتاع الشخصي، بل كانت ( سفارة) - كما كان أسلافنا يصفون من يُرسلون في مهمات سياسيّة. ومهمة الشقيري كانت الشروع في الدعاية للقضيّة الفلسطينيّة..وأين ؟ في ( وكر) الحركة الصهيونيّة المهيمنة على الصحافة وغيرها!
في بلد الديمقراطية لم يجد الأستاذ الشقيري مكانا يستأجره للمكتب العربي: لائقا أو غير لائق. إنه ليحرجني، وقد مضى علينا شهران تقريبا ، ونحن نفكّر في مكان يحتوينا، لنخدم بلادنا، وبلادنا تريد أن تطمئن إلى مكانها الذي يحتوينا. وفوق ذلك فإن الجماعات الصهيونيّة تعبئ كل قواها لتلقي آخر جنودها وعتادها في هذه المعركة الحاسمة، ففي هذه الأيام تقرر المصائر وتهبط الأقدار. والصهيونيّة تؤمن أنها إن لم تظفر ببغيتها الآن فلن تظفر بها بعد الآن، وإنها لتجد الآن في الفوضى الأوربية مناحة تستدر بها عطف العالم لتهجير يهود أوربا إلى فلسطين، والصهيونية لم تفتأ تلّح وتلحف خشية أن لا تلوح مثل هذه الفرصة أبدا.
ويضيف الشقيري في نهاية الفصل المعنون ( حيرة وصرخة): والويل للأمة التي لا تعمل حين تلوح فرصة العمل ( ص 47)
صحافة أمريكا التي يُسيطر عليها يهود أمريكا لم تنقل كلمة من المؤتمر الصحفي للأستاذ الشقيري، اللهم سوى مقالة صغيرة للصحفي بيتر أديسون في صحيفة ( واشنطن ديلي نيوز)، أثنى فيه على براعة الشقيري ولغته الإنكليزيّة التي تكاد تبّز لغة أبرع المتحدثين بها.
تلك الصحافة تضّج بالدعوة لفتح أبواب الهجرة لفلسطين، وبتصريحات الرئيس ترومان ( بطل) قصف هيروشيما وناغازاكي بالقنبلتين الذريتين، التي ينكر فيها أن الرئيس روزفلت وعد الملك عبد العزيز آل سعود بعدم التدخل في قضية فلسطين ( ص48)
بعد طول جهد يفتتح المكتب، ويبدأ الشقيري والطاقم الذي معه في إصدار نشرة حول الهجرة اليهودية إلى فلسطين. يكتب في فصل دّال عنوانه كلمة واحدة ( خيبة): أصدرنا نشرة حول الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وقد أوضحنا فيها إصرار العرب، حكومات وشعوبا، على مقاومة الهجرة اليهودية إلى فلسطين، واستمساكهم في إقامة حكومة عربيّة ديمقراطية في فلسطين، وقد أرسلنا هذه النشرة على الصحافة الأمريكيّة، وإلى الكتّاب، ومعلقي الإذاعات، وممثلي وكالات الأنباء العالمية ..وكانت النتيجة أن أهملت أكثر الصحف ذكر هذه النشرة أو إشارة لها.
يتساءل الشقيري: كيف السبيل إلى الجمهور إذا كانت الصحف موصدة في وجوهنا؟! ( ص50)
يواصل الشقيري فصول الكتاب، فيقدّم نماذج عربيّة وإسلامية مهاجرة إلى أمريكا، تؤمن بفلسطين، وحق شعبها في الاستقلال، جاهزة للتضحية، وتقديم أقصى ما تملك، وهذا ما يعزيه.
ولكن الرحلة شاقة للوصول إلى المجتمع الأمريكي الذي تهيمن على عقله، وتلغي وعيه، وتحرمه من المعرفة، صحافة منحازة تماما للحركة الصهيونية وأطماعها في فلسطين.
بعد ستة أشهر يقفل الشقيري عائدا( إلى الوطن)، ولكن ليس في جوف الطائرات، ولكن على متن سفينة تمخر المحيط، يرافقه فيها الوزير السوري ناظم القدسي، والأستاذ وهيب بك دوس عضو مجلس الشيوخ المصري، والذي يحفظ شعر شوقي ويلقيه بشكل ساحر.
يختتم الشقيري كتاب رحلته بفصل جميل بعنوان: الصخرة ..الصخرة.
وكي لا يذهب فكر القارئ إلى الصخرة في القدس، فإن الصخرة هنا هي ( جبل طارق).. والشقيري المولع بالتاريخ، ما أن يذكر ربّان السفينة اسم المكان، حتى يستعيد أمجاد العرب، ويشق على نفسه ما يعانونه في أيامهم، فيستعيد بيت الشعر ذائع الصيت بما فيه من لوم وتقريع:
ابك مثل النساء ملكا مضاعا
لم تحافظ عليه مثل الرجال
ورأيت بعد ذلك كله عربا يجوسون خلال الأندلس لا منتصرين ولا فاتحين، ولكن زائرين ومتفرجين، فيقفون عند الآثار يصعدون الأنفاس ويكفكفون العبرات، ورأيت بينهم شاعرا نصرانيا عربيّا، ذكي الفؤاد مرهف الحس، يطوف بالمسجد في قرطبة، وها هو يشرئب بعنقه نحو مئذنته الفاتنة، يسمع أجراس النواقيس تبعث رنينها في الآفاق فتفيض الحسرة في نفس الشاعر يبعثها آيا من الشعر:
يا أيها المسجد العاني بقرطبة
هلاّ تذكرك الأجراس تأذينا؟!
هذا هو بعض ما تركه الأستاذ أحمد الشقيري، الرائد في مجالات عدّة، أدبا، وسياسة، وبناء لمنظمة التحرير، وكاتب مذكرات متميز، وخطيب مفوه.. ورائد من روّاد أدب الرحلة العرب في النصف الأوّل من القرن العشرين!
29/7/2011
|