كمال ناصر - سخر من الموت فمات مصلوباً وشجاعاً - صقر أبو فخر
|
?قالت عنه الأديبة السورية الكبيرة غادة السمان في إحدى رسائلها إليه: «ينتابني إحساس دائم، كلما كتبت إليك، هو أنني لن أتلقى رداً. فأنت أيها الفارس المشرد ضائع في هذا العالم الواسع، ومن المحتمل أن تصل رسالتي إليك وأنت قد غادرت عمان (وصرتَ) حاكماً لسوريا أو قتيلاً في بيرزيت».
لم يخب حدس غادة السمان، وتحقق نصف نبوءتها؛ فقد سقط كمال ناصر قتيلاً لا في بيرزيت، بل في بيروت. وأصبح حاكماً لا في سوريا، بل في قلوبنا وفي ذاكرتنا.
الساخر الجميل
كان يخشى الموت ولا يهابه في الوقت نفسه. وكثيراً ما ردّد: أمامي عشرون سنة لكتابة الشعر، ولا أريد أن أموت قبل ذلك. ومع أن السياسة سرقت منه رحيق الشعر، إلا أنه ظل يراوغ الموت بالسخرية حيناً، وبالحب حيناً آخر، وبصخب الحياة أحياناً. وفي ميدان الفكاهة تُنسب إليه عبارة «الثورة تعني أنثى الثور». وكان منخرطاً في الثورة الفلسطينية بعقله المتقد، وأعصابه الفائرة، وروحه الوثابة، لم يطلق النار مرة واحدة، إلا ليلة استشهاده، حين ختم حياته بإطلاق رصاصة واحدة على الإسرائيليين، وتلقى جسده وابلاً من رصاصهم. ومن فكاهاته التي سرت على الألسنة أنه كان يأتي يومياً من دمشق إلى درعا ليتسقط أخبار القتال في الأردن في أيلول 1970. وفي إحدى المرات مازحه بعض أصدقائه بالقول: لماذا لا تذهب إلى عمان للاشتراك في القتال؟ فسحب كمال ناصر جواز سفره من جيبه وقال لصديقه: أنظر، والدتي تدعى وديعة، واسمي كمال بطرس ناصر وليس عنترة بن شداد العبسي. وعن أحداث تلك الفترة كتب قصيدة من فن السخرية السوداء والمرة معاً ورد فيها: «قد جاء الباهي الأدغم/ قد عاد الباهي الأدغم/ وأبو جبار يعلم/ وأنا أعلم/ ترلم ترلم ترلم». وفي إحدى المرات، وكان يجوب شوارع بيروت مع الأديبة السورية كوليت خوري بسيارته «عزيزة»، وكان صوت فيروز يصدح من مذياع السيارة، فالتفت إلى كوليت وقال لها: يجب أن نغتال فيروز. ولما سألته كوليت خوري: لماذا؟ أجاب: لأن صوتها صافٍ وجميل، ويعطي فكرة كاذبة عن العالم وعن الوحل الذي نعيش فيه. لم يبقَ أي شيء في حياتنا إلا صوت فيروز. وعندما نغتالها يصبح كل شيء وحلاً في وحل. إنها تشوه سمعتنا، وتصور عالمنا كأنه كله صفاء كصوتها.
جريدة بمئة دينار
بدأ الوعي السياسي لدى كمال ناصر يتفتح في أثناء ثورة 1936، وكان مواظباً على المشاركة في التظاهرات الوطنية المناوئة للانتداب البريطاني وللهجرة اليهودية. ومع صدور قرار التقسيم في سنة 1947 أيقن أن فلسطين تسير إلى مستقبل سديمي غامض. وقرر أن يصدر جريدة سياسية، ولم يكن لديه أي أموال. فاستدان من شقيقته سلوى مئة دينار كانت ادّخرتها لدراساتها العليا. وفي ما بعد أصدر مع عبد الله الريماوي وراجي صهيون وعبد الله نعواس وطلعت البرغوثي جريدة «البعث» في رام الله.
ألطف اعتقال في دمشق
في 23 شباط 1966 وقعت الواقعة بين البعثيين وانقلب بعضهم على بعض، فاعتقل. وتروي كوليت خوري ان كمال ناصر اختبأ في منزلها. وبعد أيام جاء ضابط ومعه عدد من الجنود يسألون عن كمال ناصر. فنفت كوليت وجوده في المنزل، لكن كمال ناصر عرف الضابط من صوته، فاعتقد انه من جناحه السياسي، فناداه إلى الدخول. وبعد أن شرب الجميع القهوة قال له الضابط: أستاذ كمال، تفضل معنا إلى المزة، فذهل كمال ناصر. وفي طريقه إلى الاعتقال كانت إذاعة دمشق تذيع أناشيد من تأليفه. وفي السجن جاءه قائد القوى الجوية (حافظ الأسد) ومدير المخابرات العامة (عبد الكريم الجندي) لإقناعه بتأييد حركة 23 شباط، لكنه رفض وظل وفياً لميشال عفلق. وعندما سألاه ما هي مطالبه قال إنه يريد ألا يقف الحارس عند باب الحمام حين يدخل إليه. فصدر الأمر بتركه في الحمام بقدر ما يريد. وقبل أن ينصرف الأسد والجندي قال لهما: سأهرب الليلة، فضحكا وانصرفا. وبالفعل تمكن من أن يتسلل عبر نافذة الحمام إلى باحة السجن، ثم سار نحو سور الحديقة وتسلقه، فإذا به في الشارع. وفي ما بعد تسلل عبر الحدود إلى طرابلس، حيث اقتحم منزل عبد المجيد الرافعي وبدأت مرحلة جديدة في حياته.
الطرد من الوطن
عاد إلى بيزريت من بيروت. لكن، لسوء طالعه وقعت هزيمة الخامس من حزيران 1967. فكتب قصيدة فيها هذا البيت الذي صار شعاراً للفدائيين:
لن نركع ذلاً لن نركع ما ظل فينا طفل يرضع
في 23/12/1967 ألقى الجيش الإسرائيلي القبض عليه، وأبعده مع صديقه إبراهيم بكر إلى الأردن. وفي الأردن التحق بالفدائيين، ثم كان له الشأن الريادي في تأسيس الاتحاد العام للكتاب والصحافيين الفلسطينيين في 2/6/1972، وفي إصدار مجلة «فلسطين الثورة»، فأطلق عليه ياسر عرفات لقب «ضمير الثورة».
«نهاية رجل شجاع» ووسيم
في بيرزيت أحب ريما ناصر ابنة خاله موسى، لكنها لم تلبث أن تزوجت، فترك ذلك في فؤاده جرحاً غائراً. وتنافس في دمشق مع نزار قباني على حب كوليت خوري. وفي بيروت أحب فتاة لبنانية من أصل يوناني تدعى فورتيادس، وانتهى الحب هباء. ثم خطب الكاتبة اللبنانية هدى زكا بعد قصة حب عاصفة، لكن هذه التجربة انتهت إلى الاندثار.
أحب النساء، وأحب ثورة أبناء شعبه معاً؛ فكان شديد التهذيب هنا، وشجاعاً متهوراً هناك. والمشهور عنه انه بعد مفاوضات الهدنة بين الملك عبد الله وموشى دايان كتب افتتاحية مجلة «الجيل الجديد» وفيها يقول: «مَن دخل البلاد بغير حرب يهون عليه تسليم البلاد». والإشارة واضحة إلى الهاشميين والى الملك عبد الله، فاعتقل مع حنا جاسر صاحب المجلة. وفي إحدى المناسبات التي ارتفعت فيها الزينة ترحيباً بالملك عبد الله خاطبه وجهاً لوجه قائلاً: «إذهب وحرر فلسطين بجيشك، إذ كان لك جيش، وعد. وعندئذٍ سنقيم لك الزينات والأقواس». وعندما اغتيل الملك عبد الله في 20/7/1951 هجاه بدلاً من أن يرثيه، فاعتقل أربعين يوماً.
*****
لم يمت كمال ناصر مستسلماً بل شجاعاً. ولد في العاشر من نيسان 1924 واغتيل في العاشر من نيسان 1973 مع رفيقيه كمال عدوان ومحمد يوسف النجار، أي انه عاش أقل من خمسين سنة. ففي 10 نيسان 1973 شوهد هذا الفارس النبيل مصلوباً على الأرض، وفي جسده عشرات الرصاصات، وبالقرب منه مسدسه ومظروف فارغ أطلق منه رصاصة واحدة وهوى. وكان آخر ما كتبه لمجلة «فلسطين الثورة» افتتاحية بعنوان «القيادات تتغير والأشخاص يزولون وتبقى القضية أكبر من الجميع». وكمال ناصر لم يُزَل، بل ما برح باقياً فينا لا يزول.
ولد في الربيع ومات فيه
- ولد في غزة في 10 نيسان 1924 (وفي مصادر أخرى انه ولد في 20 نيسان 1925)، وأصل عائلته من بلدة بيرزيت في الضفة الغربية.
- درس في كلية بيرزيت التي أسستها خالته نبيهة ناصر، وكان متفوقاً في المباريات الشعرية.
- التحق بالجامعة الأميركية في بيروت ودرس فيها العلوم السياسية، وتخرج في سنة 1945.
- عُين مدرساً في مدرسة صهيون في القدس، ثم بدأ يكتب في جريدة «الوحدة».
- عين سكرتيراً لتحرير جريدة «فلسطين»، ثم أصدر مع عبد الله الريماوي جريدة «البعث»، وشارك، في ما بعد، في إصدار مجلة «الجيل الجديد».
- انضم إلى حزب البعث العربي الاشتراكي في سنة 1954 على الأرجح، وأصبح نائباً في البرلمان الأردني في سنة 1956.
- التحق بمنظمة التحرير الفلسطينية بعد هزيمة الخامس من حزيران 1967، وانتخب عضواً في اللجنة التنفيذية للمنظمة في سنة 1969، وتسلم مسؤولية الإعلام فيها، وبهذه الصفة صار الناطق الرسمي باسم المنظمة.
- أصدر العدد الأول من مجلة «فلسطين الثورة» في 28/6/1972.
- اغتالته إسرائيل في بيروت في 10/4/1973.
- مؤلفاته الشعرية: «بواكير»؛ «خيمة في وجه الأعاصير»؛ «أنشودة الحقد»؛ «جراح تغني»؛ «أغنية النهاية». وله مسرحية «الصح والخطأ».
|
عن السفير
العدد 12 - السبت 16 نيسان 2011 - السنة الأولى
|