23 يوليو و25 يناير: عبدالناصر عود أخضر في حدائق الثورتين
السينما الوثائقية تسجل شهادتها والتاريخ شاهد عيان:
|
من كمال القاضي: في تزامن مع الاشتعال الذي تشهده البلاد وحالة الحراك الثوري للجماهير، حرص عدد من المثقفين والناشطين السياسيين على وضع ثورة يوليو وزعيمها جمال عبدالناصر في الصورة.
وهي رغبة نبعت من الإحساس بأن عبدالناصر دائما هو الغائب الحاضر في كل تظاهرة أو احتجاج فئوي أو شعبي، فصورته لم تفارق ميدان التحرير منذ 25 يناير أو أي من الساحات والميادين الأخرى، سواء بوسط العاصمة القاهرة
أو مدينة أخرى من مدن مصر الحبيبة، ولكي يكون هناك تفسير لهذا دعا القيادي الناصري والكاتب الصحافي الكبير أحمد الجمال، الى تنظيم أمسية ثقافية ببيت السناري بحي السيدة زينب، ظاهرها الاحتفال بميلاد الزعيم الخالد الذي ولد في 15 كانون الثاني/يناير عام 1918 وباطنها التبصير بانجازات 23 يوليو لتعرف الأجيال الجديدة الفرق بين زمانين، زمن النخوة والكرامة والعزة والنزاهة والبناء
والتعمير والتحدي والصمود، وزمن آخر انتهى بقيام ثورة الشباب اتسم بالفساد والظلم والاستبداد والسلب والنهب والعبودية، كانت دعوة الجمال تهدف لعقد هذه المقارنة، وربما أفصح عن ذلك، حين قال في سياق حديثه للحضور، إن الفرق بين المرحلتين لخصه الشعب بمنتهى البلاغة، حينما خرجت الجماهير الغفيرة في 67 تطالب زعيمها بعدم التنحي والبقاء في منصبه الرئاسي للجمهورية العربية المتحدة،
رغم اعترافه بالنكسة، بينما خرج الملايين من الشباب والرجال والنساء والأطفال والشيوخ رافعين شعار الرحيل للرئيس المخلوع، وهذه دلالات والكلام هنا لأحمد الجمال، على الفروق الكثيرة الشاسعة بين مرحلتين وزمانين ورئيسين، وقد عبر الكادر الناصري المعروف تلك الجزئية وتحدث عن المتغير السياسي والاجتماعي الذي يمكن ان يترتب على نجاح ثورة الشعب الآنية موجهاً التحية لكل الفئات التي
شاركت فيها وعملت على نجاحها، وفي محاولة للربط بين الأصالة والمعاصرة، تم إلقاء الضوء على بيت السناري باعتباره من الأماكن الأثرية المهمة، وحيث أن الاحتفالية تتصل بتاريخ ميلاد جمال عبدالناصر، فقد تم عرض فيلم تسجيلي عن حياته شمل أجزاء من خطبه المهمة ورحلاته وانجازاته، وهو عبارة عن تجميع وتركيب لعدد كبير من اللقاءات التذكارية والصور النادرة والشخصيات التي كانت محيطة به، ولعل
أهم ما انفرد به الفيلم الوثائقي لمحات خاطفة من حادث المنشية، فما ظهر لم يكن شافيا ولا كافيا للتعبير عن أهمية الحدث التاريخي وثراء تفاصيله، بيد أن ما يحمد لمكتبة الإسكندرية صاحبة الانجاز في خروج هذا الفيلم للنور هو جدية البحث والتنقيب عن النادر والمثير في مسيرة الرجل العظيم ودأب الشباب الذين شاركوا في الإعداد والمونتاج والمكساج لكي يتوافر للأجيال الجديدة،
ممن لم يروا عبد الناصر ، فرصة التعرف على شخصيته وتاريخه ودوره ولو منقولا عبر الصوت والضوء، فكلاهما يشي بمعاني كثيرة ويعطي دلائل ومؤشرات تصلح لتكوين فكرة عن الكاريزمية الاستثنائية في تاريخنا المصري والعربي المعاصرين، إذ يستطيع المشاهد المجرد من أية انحيازات سياسية ومرحلية أن يحكم بنفسه على ما يرى، فالكادرات مليئة بالرؤساء والزعماء الإقليميين والعالميين، والصورة تشي بزخم حقيقي
على كافة المستويات، فما من أحد يمكن أن يختلف على مناضل ثوري مثل جيفارا أو رئيس مثل تيتو أو امرأة كأنديرا غاندي أو رجل في حجم نهرو وغيرهم الكثيرين من الساسة والزعماء والثوار الكبار، كذلك ليس من قبيل الإنصاف تجاهل اهتمام جمال عبدالناصر بالعلم والعلماء والكتاب والمفكرين، فهو أول من خصص يوما للاحتفال بعيد العلماء طبقا لشهادة عميد الأدب العربي دكتور طه حسين والمسجلة كوثيقة بالفيلم نفسه،
فضلا عن وضع المبدع في مكانة رفيعة والعناية بتكريمه كما حدث مع أم كلثوم وعبدالحليم وفريد الأطرش وبقية الفنانين العظام التي حرصت ثورة 23 يوليو على إبراز دورهم في التثقيف والتنوير وأفسحت لهم المجال للعطاء بكل طاقاتهم فأنجزوا تاريخا مشرفا من الأدب والفن والموسيقى والسينما، وسجلوا شهاداتهم بكل صراحة ووضوح إزاء ما لمسوه وعايشوه من نهضة عبرت عن نفسها في مشروعات ضخمة، كالسد العالي والإصلاح الزراعي
والتعليم والصناعة والتجارة، إضافة الى التأكيد على دور مصر المحوري والريادي في المنطقة العربية ورعايتها للدول الشقيقة ودعمها للثورات وحركات التحرر كما كان في اليمن والجزائر وجنوب أفريقيا للقضاء على التمييز العنصري ونوازع الاحتلال الموجودة لدى القوى الإمبريالية، كل هذه معطيات تخلقت بفضلها براهين وأدلة جعلت من تأييد المشروع الناصري القومي العروبي بديهيات لا تحتمل الجدال ولا يمكن لعاقل وصاحب منطق ان يرفضها،
وهذا ما تضمنه الفيلم الذي جاء في تتراته ومقدمته جملا مأثورة لصاحب الرسالة النبيلة من بينها 'إرفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعمار'، وهي ذاتها التي استوحى منها ثوار 25 يناير 2011 هتافهم 'إرفع رأسك فوق إنت مصري' كناية عن العزة والفخر والتخلص من عبودية الطغاة واذلالهم، أيضا من بين ما ورد وسجلته الصورة والذاكرة رد الفعل القوي المؤكد للشجاعة والثبات من جانب الزعيم عند مواجهة الشدائد، ما قاله حين أطلق عليه محمود عبداللطيف أحد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين النار بالإسكندرية،
فيما عرف بحادث المنشية، حث ظل ناصر يصرخ، 'فليبق كل في مكانه' مطالبا الجماهير بألا يترك أحد منهم الميدان حتى لا يتفرق الجمع وتعم الفوضى ويحقق المتآمرون أغراضهم، ولم يقتصر ما تم انتقاؤه من الجمل التاريخية على هذين الموضعين، بل شمل التتر إعلان قرار تأميم قناة السويس عام 56 وما ترتب عليه من عدوان ثلاثي على مصر خرج فيه الشعب منتصرا وحمل المعتدي عصاه ورحل، هذا التداخل بين الشعارات والهتافات والأقوال جعل من الصعوبة بمكان استنباط العنوان الرئيسي للفيلم من بين كل هذه العناوين،
وترك المجال مفتوحا لسؤال حتمي، هل العنوان هو 'ارفع رأسك يا أخي أم فليبق كل في مكانه أم سنقاتل ولن نستسلم'، خاصة أن الجملة الأخيرة ترددت بوضوح ايضا ومثلت عنصرا مؤثرا في المكونات الفنية الوثائقية الرئيسية، ولكن رغم الهنات البسيطة والاختزال والتكثيف للأحداث والمواقف والتواريخ يبقى الفيلم وثيقة مهمة وعلامة سينمائية فريدة يستحق عليها من شاركوا في الفيلم التحية والتقدير، بفضلهم سيظل أرشيف ثورة يوليو وزعيمها حاضرا أبدا ـ طازجاً.
31/3/2011
|