بيان نويهض الحوت: ابنة الزمن العربي بانكساراته وأحلامه الممكنة - حسين بن حمزة

تنقّل والداها اللبنانيان بين سوريا وفلسطين والأردن ولبنان، أيّام كانت فيه بلاد الشام أرضاً واحدة. هي ولدت في القدس، وعاشت في بيروت معظم حياتها، مع رفيق دربها الكاتب والمناضل الفلسطيني الراحل شفيق الحوت. درّست التاريخ في الجامعة اللبنانيّة، وبقيت فلسطين قِبلة خياراتها واهتماماتها

منذ البداية، وجدت بيان نويهض الحوت نفسها محاطة بالتاريخ، وبشخصيات تصنع جانباً أساسياً من هذا التاريخ. والدها هو المؤرخ والصحافي المعروف عجاج نويهض (1897 ــــ 1982)، وخالها هو المجاهد فؤاد سليم الذي شارك في الثورة العربية عام 1916، وكان من مؤسسي الجيش الأردني ورئيساً لأركانه، قبل أن يستشهد في الثورة السورية بقيادة سلطان باشا الأطرش سنة 1925. الوالد والخال التقيا في القاهرة عام 1922، الأوّل لإصدار ترجمته للمجلدات الأربعة لكتاب الأمير شكيب أرسلان «حاضر العالم العربي»، والثاني كان قد اتخذ من مصر منفىً اختيارياً. تلك الصداقة كانت طريق عجاج نويهض إلى الزواج بأخت صديقه فؤاد لاحقاً.

التاريخ الحقيقي تزامن مع قراءتها لتاريخٍ متخيّل في روايات جرجي زيدان. الحضور الكثيف للتاريخ سيجد ترجمته في وقت لاحق، إذْ بدأت الفتاة الصغيرة تكتب الشعر بتأثير من والدتها الروائية والشاعرة جمال سليم، وابنة خالتها الشاعرة والناقدة سلمى الخضراء الجيوسي. نشرت قصائد كثيرة أثناء إقامتهم في الأردن، لكنّها توقفت عن الكتابة بسبب انخراطها في الحياة الحزبية والعملية بعد الاستقرار النهائي في لبنان.

«أنا ابنة الزمن العربي. أنا ابنة النكبة وزمن عبد الناصر»، تقول بيان نويهض الحوت، مستعيدة محطات وأحداثاً عدة أسهمت في تكوين وعيها القومي وهويتها المكتسبة بالانتماء، لا بالوراثة. والداها اللبنانيان عاشا في سوريا وفلسطين والأردن ولبنان، في زمنٍ كانت فيه بلاد الشام أرضاً واحدة. هي ولدت في القدس، وكان الحاج أمين الحسيني شاهداً على ولادتها، وسيكون شاهداً على زواجها أيضاً أثناء إقامته في لبنان. كانت في الحادية عشرة عندما حدثت النكبة. النكبة عاملت عائلتها كفلسطينيين كاملين، وصنعت أغلب تفاصيل حياتهم اللاحقة...

لا تزال حتى اليوم تتذكر منزلهم في القدس («الغربية» بعد الاحتلال)، ومكتبة والدها الضخمة ومراسلاته التي صادرها الإسرائيليون، ووضعوها في الجامعة العبرية. تتذكر زيارتها الأولى وهي في السابعة مع جارتهم إلى المسجد الأقصى. مثل كل من شرّدتهم النكبة، ظنّ أهلها أن خروجهم من فلسطين موقت، لكنّ الأخبار كانت تحمل إليهم كل يوم ما يجعل فكرة العودة حلماً. استقرت العائلة في الأردن أولاً. هناك أنهت صاحبة «فلسطين/ القضية الشعب الحضارة» دراستها المتوسطة، ثم تخرّجت من «دار المعلمات» في رام الله، ودرّست الأدب العربي في عمّان.

في سنة 1959، عادت العائلة نهائياً إلى لبنان، وبدأت مرحلة جديدة هي الأغزر في حياة بيان التي درّست العلوم السياسية في «الجامعة اللبنانية»، وعملت في الصحافة وفي «دار الصياد» تحديداً، حيث ستتزوج بلبناني آخر اكتسب فلسطينيته بالطريقة نفسها: «كان شفيق الحوت (1932 ــــ 2009) مديراً للتحرير في مجلة «الحوادث»، وكنّا نلتقي أحياناً في مكتب الشاعر الراحل كمال ناصر، وتدور نقاشات كثيرة بيننا انتهت بتقارب عاطفي».

هكذا، صار الحضور الفلسطيني مضاعفاً في حياتها، وتحولت القضية الفلسطينية إلى ممارسة ثقافية وسياسية وحياتية. عملت رئيسة لقسم التوثيق في «مركز الأبحاث الفلسطيني»، وفي «مركز دراسات الوحدة العربية»، ودرّست جزءاً من التاريخ الفلسطيني في «الجامعة اللبنانية» منذ 1979 حتى تقاعدها عام 2002. شاركت أثناء ذلك في العديد من المؤتمرات والندوات العربية والأجنبية. كانت فلسطين المغناطيس الذي جذب كل خياراتها واهتماماتها، وخصوصاً في مؤلفاتها التي بدأت بأطروحة الدكتوراه التي صدرت بعنوان «القيادات والمؤسسات السياسية في فلسطين 1917 ــــ 1948»، وصولاً إلى كتابها الأشهر «صبرا وشاتيلا»، مروراً بمؤلفات أخرى، إضافةً إلى إعداد مذكرات والدها التي صدرت بعنوان: «مذكرات عجاج نويهض: ستون عاماً مع القافلة العربية».

كتابها عن مجزرة صبرا وشاتيلا هو أول ما يخطر في البال حين تُستعاد مسيرة بيان نويهض الحوت. ليس فقط لأهميته التاريخية والتوثيقية، ولا لأنه يسجل بالشهادات والأرقام واحدة من أفظع الويلات التي تعرّض لها الشعب الفلسطيني، بل لأنه الكتاب الذي سيحفظها من النسيان ويخلّد اسمها في تاريخ القضية الفلسطينية، كاتبةً ومؤرخة استطاعت أن تجمع بين منهجية الدراسة الميدانية ونبرة سردية جذابة قادرة على تحويل كل ذلك إلى رواية تراجيدية متماسكة. كانت قد اتفقت مع إدوار سعيد على إنجاز مشروع عن التاريخ الشفهي للنكبة، لكنّ الاجتياح الإسرائيلي للبنان تحول إلى موضوع أكثر إلحاحاً، ثم احتلت مجزرة صبرا وشاتيلا شاشة الوعي بكاملها.

تتذكر بيان كيف بدأ الأمر بالاستماع إلى شهادات مواطنين لجأوا إلى بيتها، لأن زوجها كان ممثل «منظمة التحرير الفلسطينية» في لبنان. ثم صارت هذه الشهادات تتوالى وتتكشف عن الفظائع التي حاول التقرير اللبناني وتقرير كاهانا الإسرائيلي تحريفها، وتجهيل أسماء مرتكبيها وإخفاء العدد الحقيقي لضحاياها. ..

مثل أي فلسطيني، هناك حكاية شخصية لبيان نويهض الحوت مع فكرة الحنين. عام 1995، أحضر لهم صديق ألماني صوراً لبيت العائلة في القدس الغربية: «لا يزال بيتنا موجوداً. اقتطع محتلّوه جزءاً من حديقته الأمامية ليكون موقفاً لسياراتهم. سألت أبي مرة عن الشيء الذي سيُحضره لو قيّض له أن يزور بيتنا، فقال: «مراسلاتي مع الأمير شكيب أرسلان». أما أخوها خلدون فقال إنّه كان ليحضر «ألبومات الصور». وأنتِ؟ نسألها. «أنا أفكر باستعادة المكتبة كلها، وهناك مشروع قيد البحث للمطالبة بها».

بطريقة ما، تصعب قراءة سيرة بيان نويهض الحوت بمعزل عن سِيَر الآخرين التي اختلطت بها. أثناء لقائنا كانت تحتفي بصدور كتاب «الأمير أمين أرسلان» بتوقيع والدها وشقيقها، وتستعد لإصدار مخطوطة لوالدها تتضمن مقابلات وشهادات لرجالات الثورة العربية. ماذا عن رفيق دربها الحاضر الغائب؟ «لم أدخل في الافتقاد بعد. لا يزال أبو هادر يعيش معي». إلى جوارها صورة للراحل مع جمال عبد الناصر. تبتسم وتقول: «كان سيفرح لو شهد ثورة الشباب في مصر الآن».



عن الأخبار
10/03/2011







® All Rights Reserved, ABNAA' SUHMATA Association
  Best experienced using MS Internet Explorer 6.0, Screen is optimised for viewing at 800 x 600