القيسي شاهد الجريمة وبشّر بفجر ليبيا... - رشاد أبوشاور
|
عمل الشاعر الفلسطيني الكبير محمد القيسي في منتصف السبعينيات مدرسا في مدينة بنغازي في ليبيا، وفي تلك المدينة الأكثر انفتاحا نمت بينه وبين مثقفيها ومبدعيها صداقة استمرت حتى رحيله، وما زالت حيّة في نفوس ليبيين كثيرين حفظوا للقيسي شجاعته في فضح جريمة إعدام طلبة الجامعة في بنغازي شنقا، وبطريقة بشعة لا سابق لها في كل بلاد العرب، ولم تقترفها أكثر الديكتاتوريات قسوة.
كان محمد كلما استعاد فصول هول ذلك اليوم الرهيب في بنغازي، وساحة جامعتها، ينفجر في البكاء، ويرتجف نائحا كأنه يرى المشهد حيّا أمام عينيه.
كان يواري عينيه، وينحني، ويهتز جسده وهو يحاول كتم ألمه، ثمّ يخرج صوته مفجوعا راثيا من جديد أولئك الطلبة الذين أمرت سلطات القذافي، ولجانه (الثورية) في الجامعة، بإعدام كل من يعارض أفكار (القائد). كانت اللجان تتكوّن من طلبة انتهازيين مرتزقة أرعبوا الجامعة أساتذة وطلبة وطالبات، بإنشائهم محاكم (تفتيش) توجه التهم، وتحكم، وتنفّذ أحكامها فورا في الميدان باحتفالات وحشية طقوسية وهستيرية تهتف بحياة (القائد) وكتابه الأخضر.
روى لي محمد أن بعض الطلبة الشجعان تمردوا على جو الرعب، فما كان من جماعة لجان القذافي إلاّ أن استعانوا بأجهزة الأمن لقمع تمرّد الطلبة، ومعهم ارتجلوا محاكم فورية، وأصدروا الأحكام على عشرين طالبا، نفذوا فيهم الحكم تحت عيون زملائهم وزميلاتهم.
روى لي محمد أنهم نصبوا المشانق، كما لو أنها أراجيح، وكانت قصيرة، وقريبة من الأرض، ولذا كانوا ما إن يشدّوا حول عنق الطالب، حتى يأخذوا في شده من ساقيه، بينما هو يرتجف، إلى أن تصعد روحه، ويخمد جسده، فيرمونه، ثمّ ينتقلون إلى غيره، وهكذا، حتى أتموا شنق عشرين شابا جامعيا، كانوا فتية في مقتبل العمر، كل ذنبهم أنهم طالبوا بالحرية ورفضوا عسف أجهزة القذافي الطاغية.
في ديوانه (اشتعالات عبد الله وأيامه) أعاد القيسي نشر قصائده - المراثي التي كتبها لأرواح أولئك الشباب الشهداء، ضحايا الطاغية القذافي وعصاباته التي أفسدت الحياة في ليبيا، وأهداها لصديقه الليبي الشهيد (مصطفى الهاشمي) عام 1977.
يبدأ القيسي مراثيه الحزينة بنشيد (اليوم أتممت تعاليمي):
يا مساء الخير يا غرناطة الحزن،
ويا غرناطة الوحشة والرعشة،
ما هذا الزحام الموج،
فالزينة لا تأخذ من إكليلك العشبي، إلاّ الظاهر الغشاش،
في هذا العرار النابض الجيّاش، في الأضلاع،
لي نجد وكمثرى
ولي من ناقتي زاد الأغاني الجارحة
بعد المدخل (الغرناطي) الذي يحيل إلى لوركا، وجرائم ديكتاتور إسبانيا فرانكو - والطغاة متشابهون جنونا، وسلوكا، وعداءً للحياة - ينتقل في مقطع حار غاضب إلى (مناخ) الجريمة:
يا حقول القمح والحنطة
أتممت تعاليمي إلى الأشجار في كفتيريا الجامعة
الهمُّ احتساني
فاحتسيت القهوة المرّة في جمع من الناس،
على رنّة أمي النائحة.
يا حقول الجوع والحنطة،
أتممت تعاليمي إلى الأطفال في الشارع،
والعمّال في هذا المدى الدامع،
آنست إلى الراحة والطعن،
ويا عصفورة البين، احفظي عني فصول الأرض،
زوري نخلة الله بغرناطة ليلاًً
واحملي لي بلحا أو قبلةً منها
وقولي مرحبا
يا حقول الجوع والحنطة هاتي الكتبا
بدأ العام الدراسي فما نقرأ؟
اقرأ باسم هذا الجوع، واقرأ ما خلق
خلق الإنسان من فقر وجوع وعرق
تلك هي روح الهاشمي ورفاقه، من عُلّقوا على مشانق أخفض من قاماتهم، فتعلّق القتلة بأقدامهم، وجرّوهم بين حبل المشنقة والأرض التي أنجبتهم: ليبيا.
وإذ يموت الطالب المثقف اليساري التقدمي، المحرّم عليه التفكير، وحرية الاختيار، في جماهيرية القذافي الدكتاتور، يرتفع النشيد من القبر:
يا شموسي الدافئة
ملكوتي أنت، عزفي الحارق اليومي، فُوّضت عن الجوع،
فعانقت القرى والريف والصحراء من نافذة القبر،
وطوّفت رسولاً موفدا من ليل غرناطة
طوّفت إلى الطلاّب في العالم،
ناديت: اخرجي غرناطة الآن إلى جدولك النائم والمجهول،
أمداءً وبيتا
واخرجي من هذه العتمة مشكاة وزيتا
فإذا الليل سجى
ما ودّع الطالب ظلّ النخل والرمل، ولا القلب قلى
يا حقول الجوع هاتي الكتبا
أنا ما أغمضت عيني تعبا
كأنما صوت الشهيد - الهاشمي، متعانقا مع صوت الشاعر، وكلاهما رحلا ولم يريا لحظة قيامة ليبيا وشعبها العظيم، تردّ على صراخ الدكتاتور وهو يأمر ملايين الليبيين أن يخرجوا إلى الشوارع لنصرته، مُدعيا أنه مجدهم ومعبودهم، الذي يملك أن يسخطهم ويخسف الأرض بهم إن هم خالفوه، وخرجوا على ربوبيته.
غرناطة خرجت من العتمة، تجلّت في بنغازي وأخواتها، وطلبة الجامعة حرروا الشوارع وهم بتمام يقظة أرواحهم، وعقولهم، ولهفتهم على الحرية..الشمس التي افتداها رفاقهم عام 77 في جامعة بنغازي.
البشارة تطلع من القبر، فروح الفتى الليبي الشهيد لم تمت، ولذا فهي تُنشد:
يا مساء الخير يا غرناطة الوعد،
ويا فصلاً جميل الرعد،
لي هذا العرار النابض الجيّاش في الأضلاع،
لي نجد وكمثرى
ولي من ناقتي
زاد الأغاني الجارحة
كتب القيسي أناشيده الحيّة تلك، الوفية لشهداء جامعة بنغازي، وللشعب الليبي، وهو في ليبيا، في شهر نيسان (أبريل) من العام77، وها هي أناشيده ومراثيه تعود متفائلة رغم المرارة وأهوال زمن الطاغية.
يختتم القيسي النشيد الثاني (النهر يتلو الكتب):
يا بروقي المقبلة
جسدي في سنبلة
وثماري للقطاف
فأعدّي من جديد
لزفاف وزفاف وزفاف
(نعمة) الحبيبة الليبية سرقوا منها الحبيب وشنقوه، وهي بقيت وحيدة تنتظر...
البروق المقبلة تضيء عتمة سماء ليبيا، والرعود ترجّ الآفاق، والمطر الموعود جاء، وها هو أوان الزفاف قد تحقق، وليبيا بأرواح شهدائها، من شُنقوا في الجامعة، ومن تحصدهم طائرات، وقذائف رشاشات القذافي وأبنائه..تنهض، فالواقعة وقعت، والقارعة قرعت، والأيدي المضرجة بالدم تدق باب الحريّة، وما بقي سوى القليل حتى تغمر الشمس ربوع ليبيا...
رحل الشاعر الكبير محمد القيسي، ولكنه يستيقظ مع (الهاشمي) الليبي، وكل الشهداء....ليشهدوا نشيد الشمس والحرية والفرح والصعود:
آه يا نعمة ما نعمان إلاّ طالبا كان يرى المستور خلف الشجرة
ويرى الشمس التي تسطع لا تسطع في هذي الجذوع النخرة
قال ما قال فأردته بواد غير ذي زرع،
عيون السحرة
فأقلّي الحزن يا سيدة الصفصاف والدمع،
أقلّي من أسىً السروة والنبع،
ومن لوع فضاء القبّرة
ثمّ ها هي نعمة المحزونة تزغرد يا محمد، وها هي تقف على ضريح نعمان - الهاشمي زافة البشرى....فالطغيان يترنح، والطاغية يفقد صوابه، ويهذي وهو يشهد آخرته المخزية..زمن الجنون انتهى في ليبيا، وها هو النخيل يمنح سعفه لأضرحة من بشّروا بهذا اليوم، يوم ليبيا الذي ينهي أيام الجنون...
القصائد من المجلد الأوّل من الأعمال الكاملة للشاعر الكبير محمد القيسي، والتي صدرت عن 'المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر'.
عن القدس العربي
4/03/2011
|