عناصر من منظمة الهاغاناه تطرد عائلة فلسطينية من حيفا عام 1948
أسّسها ظاهر العمر الزيداني وعراقتها تفضح هشاشة الاحتلال
ثورة القسّام انطلقت من هذه المدينة، وكذلك الحركة الوطنية، وأول مجلة أدبية في فلسطين... معطيات كثيرة نستعيدها مع احتفاليّة «250 سنة على تأسيس حيفا الجديدة»، التي افتتحت بمحاضرة للباحث محمود يزبك. مبادرة مميّزة يتطلّب نجاحها إشراك الشتات، واحتضاناً عربياً على مستوى النشر والإعلام
حيفا المحتلة | على إيقاع الثورة المصرية وقبلها التونسية، بدأت مدينة حيفا المحتلة احتفاليتها بـ «250 سنة على تأسيس حيفا الجديدة». المناسبة التي دعت إليها جمعيات أهلية وقوى وطنية فلسطينية، ستمتد طوال العام الحالي، وسيُعلن عنها تباعاً. وستقف هذه الفعاليات على قرنين ونصف قرن من تاريخ حيفا ضمن تاريخ أطول عملت المؤسسة الاستعمارية على طمسه. عرضُ هذا الجزء القصير نسبياً من تاريخ مدينة فلسطينية واحدة، لا بد أن يعطي شعوراً بمدى ضآلة الاستعمار الصهيوني في تاريخ عربي طويل طوى صفحة أكثر من استعمار وكانت الأرض تعود دوماً إلى أهلها.
الفعاليات بدأت هذا الشهر في «مسرح الميدان» بمحاضرة عنوانها «مشروع بناء الدولة للشيخ ظاهر العمر الزيداني، وتأسيس مدينة حيفا الجديدة»، ألقاها الباحث محمود يزبك، المحاضر في جامعة حيفا (راجع المقال أدناه). تلتها ندوة تحدث فيها الشاعر حنا أبو حنا والأكاديميان جوني منصور ومنار حسن، وأدارتها الإعلامية جهاد رافع. ولعلّ أهميّة الفعالية في كونها بدت نوعاً من الاستعراض البانورامي لجزء من تاريخ المدينة الفلسطينيّة العريقة.
جوني منصور (صاحب كتاب «شوارع حيفا العربية») تحدث عن تجربته في التجوال مع والده، آخر أيامه، في شوارع حيفا بصحبة كاميرا الفيديو. ويذكر أنه في إحدى المرّات قال له: «شوارع من دون سكانها ما هي شوارع». من هنا «بدأت بكتابة روايتنا». ويضيف: «نحن في هذه الأمسية لنؤكد وجودنا وتاريخنا في هذه المدينة كمجتمع. استعادة الحدث التاريخي هنا لها قيمة التعلم والتذكر والتخطيط للمستقبل».
ويواصل منصور: «حركة عز الدين القسّام انطلقت من حيفا، واجتماعات كثيرة للحركة الوطنية الفلسطينية عُقدت في حيفا، كما أدّت دوراً أساسياً في سياق المشروع البريطاني. حركة الهجرة التي شهدتها المدينة أواخر العهد العثماني، استطاعت استقطاب مئات العائلات الفلسطينية وغير الفلسطينية، فالذين بنوا حيفا استطاعوا أن يقيموا عشرات المؤسسات التعليمية والأندية والجمعيات.
كان هناك قرابة 80 جمعية ونادياً تعمل في الثلاثينيات والأربعينيات، في غياب أيّ حكومة سوى حكومة الانتداب، التي شُغلت آنذاك بمصالحها الاقتصادية والتمهيد للمشروع الصهيوني».
الباحثة منار حسن تحدثت عن «تحولات مكانة النساء في حيفا مع عملية التمدن»، فـ «تحولات الحيّز العام سواء الترفيهي أو السياسي كان لها تأثير ملحوظ على الحيّز الاجتماعي. مثلاً نشأت ظاهرة «الاستقبالات» بما يشبه ظاهرة الصالونات في أوروبا، ويقال إنّ هذه الصالونات كانت المنشأ للحركة النسائية في فلسطين. ومن الحيّزات الأخرى ظاهرة «الجناكي»، وهي فرق نسائية من الطبقات الشعبية الفقيرة، يعملن كراقصات وعازفات ومغنيات، يذهبن إلى الحمّام للترفيه عن نساء الطبقات الوسطى والغنية. في يافا مثلاً كن يعشن في بيوت مستقلة عن عائلاتهن».
وتناول حنا أبو حنا الحياة الأدبية في حيفا. رغم معايشته جزءاً من هذا التاريخ، فمداخلته أخذت طابعاً مدرسياً لجهة اكتفائها بعرض معلومات تاريخية معظمها معروف للباحثين: «أول مجلة أدبية صدرت في فلسطين كانت من حيفا. وما كاد يعلن الدستور العثماني، الذي سمح بإصدار الصحف (1908)، حتى أصدر خليل بيدس مجلة «النفائس العصرية»، ونجيب نصار صحيفة «الكرمل»، وتعدّ أول الصحف الوطنية في فلسطين. وكانت «المهماز» آخر ما صدر في حيفا من صحف ومجلات».
تعرّض أبو حنا لبعض الأسماء الشعرية التي نشأت في حيفا أو ارتبطت بها. «بين 1908 و1948، قدّمت حيفا إلى الأدب الفلسطيني عدداً من الشعراء الكبار، منهم وديع البستاني. هذا شاعر يجب أن نفرد له أمسية خاصة. هو لبناني. في ذلك الوقت كان لبنان جزءاً من فلسطين والكل من بلاد الشام. وقد كان شاعراً ومحامياً، خلّد الحياة الفلسطينية في ديوانه «الفلسطينيات». وبيته موجود حتى اليوم في الشاطئ في منطقة «واد الجِمال»، كما ذكر جميل البحري الذي أنشأ جريدة «الزَّهرة»، التي اهتمت بنقل الأدب الفرنسي، وخصوصاً المسرح». وهناك أيضاً حسن البحيري الذي «ولد في وادي النسناس (1922) وعاش في الحليصة ومنها شُرّد. له شعر كثير في وصف حيفا، منه ديوانه «حبيبتي حيفا»، وكتب كثيراً منه في الشام».
الشاعر الآخر عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) برز في حيفا بحسب أبو حنا: بدأ حياته معلّماً في المدرسة الرشيدية في القدس. كانت فترة معارك سياسية فكتب قصيدة ضد دار «المندوب السامي» الواقعة على جبل المكبّر، أقيل على أثرها من التدريس. وهناك قصيدة مهمّة لأبي سلمى، وزعت سراً ولم ينشر اسمه عليها إلا لاحقاً. وقد كتبها حين تدخل الملوك العرب لإيقاف ثورة 1936، وهي قصيدته الشهيرة التي يقول مطلعها: «أكتب على لهب القصيدِ شكوى العبيد إلى العبيدِ». كما توقف أبو حنا عند شخصية نسوية، هي ساذج نصار، زوجة نجيب نصار التي ساعدت زوجها على إدارة صحيفته «الكرمل»، ولا سيما عند اعتقاله، وكانت ناشطة في الحركة النسائية.
لكن ماذا عن برنامج سنة الاحتفالية؟ صعوبات ليست بالقليلة، أمام برنامج يتطلب موارد وإمكانات غير متوافرة ومؤسسة صهيونية محترفة في طمس التاريخ. هذه الاحتفالية لن تنجح من دون التفاف فلسطيني في اللجوء واحتضان محيط عربي، ودعمها على الأقل في حقول الثقافة والإعلام والنشر... في لحظة الخروج هذه من ظلمات العصور الوسطى للأنظمة، تتراءى «جنة الكرمل» مثل نجمة صبح... أجل، إننا عائدون إلى حيفا.
شرخ عابر في تاريخ طويل - نجوان درويش
بدأ محمود يزبك محاضرته بأنّ هناك خلافاً بين المؤرخين على سنة تأسيس ظاهر العمر الزيداني لمدينة حيفا الحديثة؛ وأنّ 1761 ليس التاريخ الوحيد، وإن كان الأقرب إلى الدقة. في القرن السابع عشر، كانت حيفا قرية صغيرة تتبع للحاكم الإداري لمنطقة اللجون. مع ذلك، منحها موقعها كقرية على الشاطئ أهمية كبيرة، إذ كانت جنة للمهربين والخارجين على القانون، وسمّيت وقتها مالطا الصغيرة، لأن السفن التي كان يستعملها أهل مالطا في التهريب كانت تجد لها ملاذاً في حيفا. في الفترة ذاتها، شهدت فلسطين تحولات اقتصادية جذرية، ولا سيّما الجليل، التي أصبحت مُصدّراً لأهم مادة تريدها أوروبا، ألا وهي القطن. في تلك الفترة، برز على الساحة السياسية ظاهر العمر الزيداني، الذي كان أول شخص محلي اخترع ظاهرة الاحتكار حين احتكر زراعة القطن على حد تعبير يزبك. في 1744، استولى ظاهر العمر على عكا وأقام حولها الأسوار، مرمماً السور القديم. ثمة خلاف على مشروع ظاهر العمر، إن كان يحاول بناء شيء مستقل أو إمارة داخل الدولة العثمانية، لكنه في رأينا وضع الأساس المتين لمدينة حيفا ونُقل المجتمع الفلسطيني إلى مراكز مدنية، وهذا لم يكن متوافراً إلا في نابلس والقدس. وحين شعرت الدولة العثمانية بضرورة التخلّص من ظاهر العمر، أرسلت إليه حملة بقيادة حسن باشا الجزائري قائد الأسطول العثماني وأحمد باشا الجزّار. 1831 كان تاريخاً أساسياً. كان الاحتلال المصري لفلسطين على يد إبراهيم باشا، حيث حاصر عكا ستة أشهر. وحين دخل المدينة، بدأ تجارها بالرحيل إلى حيفا. كنتيجة لمصيبة عكا، بدأت حيفا تتطور سريعاً. وفي 1854، قررت الدولة العثمانية تحويل حيفا إلى مركز قضاء. وكانت حيفا المدينة الفلسطينية الثالثة بعد نابلس والقدس التي تحظى بمجلس بلدي عام 1871.
في داخل الحي الشرقي، بدأت تتطور حارة يهودية عرفت بالحي الإسرائيلي. في 1868، جاء أول المستوطنين الألمان «التمبلريين» وبدأوا بشراء الأراضي. كانت حيفا وقتها مزروعة بالبيارات والبساتين والكروم بعكس كتابات لاحقة تذكر بأنها كانت صحراء! في 1882، أُعلن رسمياً بناء سكة حديد الحجاز/ حيفا، ونقطة الانطلاق في القرن العشرين بالنسبة إلى حيفا هي وصول السكة في 1905. وإن كان حي اليهود في الحارة الشرقية جزءاً من النسيج الاجتماعي الفلسطيني، فإن هرتسليا التي بنيت عام 1909 حرصت على أن تنفصل عن النسيج الاجتماعي الموجود، لتعمل لاحقاً بطريقة مكشوفة للحركة الصهيونية.بعد نهاية هذه الجولة في تاريخ حيفا القريب، يبدو كم أن المشروع الصهيوني لا يصارعنا نحن وظاهر العمر فحسب، بل يصارع ذاكرة ممتدة. والظاهر بيبرس، وصلاح الدين، وعز الدين القسّام، ووديع البستاني، وغسان كنفاني، وناجي العلي هم بعض عناوينها... وتبدو «دولة إسرائيل» شرخاً صغيراً، عابراً، في تاريخ طويل.
عن «الأخبار»
25/2/2011
|