يسرّنا بمناسبة الذكرى ال 63 للنكبة نشر هذا المقال عن صحيفة السفير 10 - 1 - 2011 الذي يشير إلى الحلم الذي كان يراود أبو ماهر اليماني ابن سحماتا البار والقائد الفلسطيني البارز من أجل العودة إلى فلسطين .
سمعت أبا ماهر يقول «كنت أتمنى بكل جوارحي أن يخرج الفلسطينيون من المخيمات في لبنان، بقضّهم وقضيضهم، وعن بكرة أبيهم، نساء ورجالا شيوخا وأطفالا، ويتجمهروا عند أي نقطة في الجنوب، صيدا أو صور، ومع بزوغ فجر اليوم التالي يشدون الرحال سيراً على الأقدام، وفي مسيرة مصممة باتجاه فلسطين. وليكن كذلك في سوريا والأردن! ينتظمون بمسيرة سلمية مشياً على الأقدام ليشكلوا حزاما بشريا يحيط بدولة الاغتصاب إسرائيل، ويصرخون في وجه العالم وأمام مندوبي الاعلام العالمي أننا هنا نريد العودة إلى أرضنا وقرانا وبيوتنا، وها نحن قد جردنا أنفسنا من أي سلاح ومن أي وسيلة عنفية نطلب العودة بسلام ودون انتقام من أحد!».
«كفانا ذلاً وقهراً في مخيمات البؤس وهي ليست بمخيمات بل هي مأوى للعجز والموت البطيء في الجسد والروح. وعلى حدود فلسطين الحبيبة قد يقتل منا العسكر المحتل الغاصب، العشرات وربما المئات. أوليس الموت على أرضنا أجدر وأشرف من موتنا البطيء في «أكواخ الصفيح» وفي انتظار لا نهاية له لقرارات دولية خائبة، وبيانات «قمم عربية» سقيمة؟ يا ليتني يا أخي ـ والكلام لأبي ماهر ـ أتمكن من إقناع إخوتي بهذه الفكرة التي أزداد اقتناعا بها يوما بعد يوم ومنذ النكبة اللعينة. رحل الكبير منا الذي قال يوما «ما أخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة». وقد فجعنا برحيله المبكر وباتت الأمة بأسرها من بعده في يتم غارقة حتى أذني دولها وأنظمتها في مباذل من السياسات التي ابتعدت بها عن القضايا الجوهرية. قضايا المصير وحماية الارض والكرامة. وأية أرض أغلى من فلسطين وأية كرامة أعز منها! ثم من أين لنا الآن أن نحقق وعد «الكبير»!
قد يجد الكثيرون الغرابة كل الغرابة في فكرتي هذه، وفي طريقي هذا إلى العودة. ليتذكروا ما فعله غاندي بالامبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس وسلاحها الغاشم. لسنا أقل شأنا في تمسكنا بحقنا الوطني والإنساني، ولا أقل شأنا في الإصرار على بلوغه فلماذا التردد والانتظار؟ كلام سمعته مرارا من الأخ الكبير أبي ماهر اليماني، في لقاءات العمل القومي في كنف حركة القوميين العرب.
كنت بين الحين والآخر، أزوره يوم كان مقيما في برج البراجنة، في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن الماضي، وكنا يومها في عز الشباب والهمة وعز الأمل، كان يستقبلني مستبشراً. وكنت ألحظ دائماً على عتبة باب بيته المتواضع «بقجة» أو «حزمه» محكمة الربط مكونة من فراش وبطانية وحصيرة، وبجانبها إبريق معدني. ولما شعر أن نظري منجذب إلى ما أرى على تلك العتبة، كان يستبق سؤالي بقوله «هذه عدة الشغل يا خوي»، فأنا كما تعلم نزيل السجون الدائم وبامتياز. و«البقجة» التي لفتت نظرك هي من ابتكار أم ماهر. والمسألة انه عندما يأتي زوار الفجر في أية لحظة غير محسوبة، وما أكثر ما يأتون، أكون جاهزا مع عدتي هذه، وغب الطلب فلا أضيع على زواري لحظة واحدة، قالها ضاحكا. كما تعلم فأنا ضيف دائم لجماعة انطون سعد وغيره من جهابذة المكتب الثاني. أنا ضيفهم المميز. كلما وزع منشور فلسطيني، أو خرج الاخوة في مخيم ما للاحتفال بمناسبة فلسطينية، وما أكثر المناسبات تلك وما أوجعها، يكون أبو ماهر هو «المسؤول».
وبت أنتظرهم، زوار الفجر، يقرعون بابي ويأخذونني في «ضيافة» إلى أحد السجون أو النظارات. وقد تطول الضيافة أو تقصر. وهكذا امتثل حاملا «عدتي» على كتفي».
أصبح لي منزلان، واحد «للضيافة» عند المكتب الثاني، وآخر منزلي العائلي، وهكذا كانت تمضي الأيام والليالي!
هذا قليل من كثير مما عايشته مع الأخ الكبير أبي ماهر. لم أعرف أحدا يفوقه صلابة ولا قدرة على الصمود في وجه المكاره والعذابات. ولم أعرف أحدا ما اهتز يقينه وهو يواجه الخيبات والنكسات ومواقف التخلي والتراجع كأبي ماهر. بقي على يقينه الناصع الصلب القاطع كحد السيف، وكان يردد دائما ان الأيام رغم بؤسنا الراهن ستأتينا بالأفضل ان تمسكنا بالموقف ونبذنا، حتى النهاية، كل فكر مساوم وكل ثقافة عرجاء تدعو إلى التراجع عن حقنا ووطننا.
عايشته ردحا من الزمن في ميدان العمل القومي، وتركت الوطن لعقدين من الزمن ولدى عودتي، وجدته كما عرفته طودا شامخ العزم في موقعه النضالي الشريف العفيف.