(إلى قدس الأرشمندريت أغابيوس أبو سعدى- رئيس الرعيّة الملكيّة الكاثوليكيّة في حيفا..كلمة محبة وتقدير- معًا من أجل غد مشتهى!)
** جرحنا واحد..وحلمنا واحد!
ذات جمعة..بتاريخ (26-11-2010)، اتصل بي أخي وصديقي قدس الأرشمندريت أغابيوس أبو سعدى، رئيس الرعيّة الملكيّة الكاثوليكيّة في حيفا، الذي تربطني به علاقة مميزة..حميمة ومتينة ونبيلة، ودعاني للمشاركة في مسيرة المشاعل التي ستقام مساء ذلك اليوم..والتي بادرت إليها كنائس الكاثوليك والموارنة والروم الأرثوذكس.
لم أفكر مرتين..فلبيت نداء الواجب الذي يطمح إلى تعميق المشترك بين أبناء شعبنا من جميع الطوائف العربية في مدينة حيفا..وفي جميع أنحاء الوطن.
فنحن في خندق واحد!
حزننا واحد..وفرحنا واحد!
إنه واجب وطني!
يحمل رسالة نؤمن بها..ونحملها لنضيء الطريق أمام أبنائنا وأحفادنا..وأمام الأجيال الصاعدة التي تطمح إلى الحياة الأشرف..في وطن آبائنا وأجدادنا!
وجدت نفسي مع أبناء شعبي على مختلف انتماءاتهم وطوائفهم..مسلمين ومسيحيين..إخوتي وأهلي..ووجدت نفسي ورفاق دربي والناس الشرفاء..نسير في طليعة الموكب..
شعرت أنني أحقق انتمائي إلى إنسانيتي..وشعرت بروعة الإحساس في أن يكون الإنسان إنسانًا إنسانًا قبل كل شيء!
إنها تلبية لنداء الواجب الأخلاقي والاجتماعي والوطني والقومي والإنساني..وكلها واجبات مقدسة..نضطلع بها للتأكيد على أننا كلنا في الهمّ شرق..
** مسيرة المشاعل..أقواس الأمل..وراية واحدة!
مسيرة المشاعل..مسيرة النجوم في ليل المدينة!
إنها مسيرة الأمل!
ألمشهد رائع ومهيب..
تنظر العيون إلى العيون..نلتفت إلى بحر الجموع الذي يسير وراءنا..فنشعر بالرضا..وتزداد ثقتنا بطريقنا..لسنا وحدنا!
نحن جسد واحد..إذا اشتكى منه عضو..تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى!
نحن معًا دائمًا..في السراء والضراء..طريقنا واحد..ماضينا واحد..وحاضرنا واحد..ومستقبلنا واحد!
يشق "البحر" شوارع المدينة..وفي قلب الجموع يستوطن الغضب الساطع والصادق..والحزن العميق..ومن العيون تتوب النظرات نحو آفاق المستقبل الأفضل!
لقد تدفق المئات من أبناء شعبنا في حيفا..للمشاركة في مسيرة الشموع والقناديل والمشاعل.
كلنا تحت راية واحدة!
يتقهقر الظلام أمام مسيرة الشموع!
وتولد في كل قلب شمعة!
يضيء ليل المدينة..وتمتلئ القلوب دفئًا حميميًا..يطغى على البرد القارس الذي تسرب إلى شرايين المساء التشريني!
وتخيم على المسيرة أقواس الأمل!
ألمئات من الشباب والصبايا والنساء والرجال والأطفال..ساروا يدا بيد..متكاتفين كالبنيان المرصوص..يشد بعضهم بعضًا..إخوة يجمعهم ألم واحد..وأمل واحد.
** ألكنائس والمساجد ضحايا الإرهاب الأسود!
أما مناسبة المسيرة، فكانت الاحتجاج على الاعتداء الإرهابي البربري الهمجي على كنيسة "سيدة النجاة" في بغداد..وسقوط الضحايا الأبرياء..في عراق الحضارة والنخيل!
لقد أوقع البرابرة الإرهابيون العشرات من الضحايا من المصلين المدنيين..وسقط الأبرياء قبل أن يكملوا صلواتهم ودعاءاتهم وابتهالاهم!
عاصمة الرشيد تنزف دمًا وغضبًا..وجراحها مشرعة على شيء من الأمل..وعلامات السؤال!
لماذا!؟ لماذا!؟ لماذا!؟
ألا يكفيها ما ألحقه البقر..رعاة البقر الهمجيون..بإنسانها وترابها ونخيلها وكنائسها ومساجدها وحضارتها؟
ألا يكفيها سنابك الغزاة البرابرة..التي حرثت أرضها..ودمرت حضارتها..وداست رقاب العباد من رجالها ونسائها ويتمت أطفالها..واغتالت علماءها وأدباءها وشعراءها..وسممت آبارها ودجلتها وفراتها؟
** تعددت المشاهد..والمخرج واحد!
إن أي اعتداء على الأماكن المقدسة، من كنائس ومساجد، وحصاد أرواح المصلين من رجال ونساء وصبايا وأطفال..هو اعتداء على شعبنا بكل طوائفه..والاعتداء على "كنيسة النجاة"..اعتداء على أهلنا وعلى شعبنا..وهو اعتداء إرهابي إجرامي بكل المقاييس..مهما كانت هوية الأقنعة البشعة التي تتخفى وراءها وجوه مشبوهة تنتمي إلى فصيلة أعداء الإنسانية وأعداء الحضارة!
إن مشاهد الدماء في أماكن العبادة وأشلاء الضحايا الأبرياء..تهزنا من الأعماق..وتثير لدى كل ذي ضمير حيّ..أشد مشاعر الغضب والاستنكار..كائنا من كانت هوية "الكفّ السوداء" التي قامت بارتكاب الجريمة!
إن الاعتداء على الكنائس في عاصمة الرشيد وأرض الكنانة..وإزهاق الأرواح البريئة..لهو عمل إرهابي وحشي بربري..يستهدف وحدة أبناء شعبنا وطعن نسيجه الاجتماعي والقومي في الصميم!
والاعتداء على المساجد في الموصل ولاهور (باكستان) وحصاد الدماء الزكية..عمل إرهابي بربري..
وتفجير الأسواق وتمزيق أجساد المدنيين الغلابى الأبرياء في بغداد والموصل..عمل إرهابي ترتكبه وحوش إرهابية بربرية متعطشة للدم..
والكفّ السوداء واحدة!
ففي جميع مواقع الجريمة..نجد البصمات نفسها!!
لقد تعددت المشاهد..والمخرج واحد..والكفّ السوداء واحدة!
إنه أخطبوط واحد..وله ألف ذراع تغطي خارطة الكون!
** باسم "الدين" يقترف المجرمون جرائمهم!
إن "الدين" الذي يبيح قتل المؤمنين والأبرياء..من ورجال وأطفال ونساء..ليس دينًا..إنه عدو الإنسانية..وعدونا جميعنا..
هو "دينهم" وديدنهم..ولا علاقة له بالدين الحقيقي..والدين الحقيقي براء منه..ونحن براء منه..وكل إنسان متحضر براء منه..
مثل هؤلاء..لا علاقة لجرائمهم بالتعاليم الدينية النبيلة التي تدعو إلى خلق مجتمع حضاري متنور..يسوده الخير والمحبة والسعادة واحترام الآخر..
فـ"من قتل نفسًا بغير نفس (أي: بغير سبب) أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا".
هكذا علمنا القرآن الكريم.
** ألمجزرة عنوان المرحلة!
ألمشهد في بلد الحضارة والعلم والنخيل..مشهد عبثي..كل شيء فيه ممكن!
والمشهد في أرض الكنانة..مشهد عبثي..كل شيء فيه ممكن!
ألموت المجاني العبثي..سيد الموقف!
وغياب العقل..سيد الموقف!
والمشهد السوريالي..سيد الموقف!
والجنون الدموي..سيد الموقف!
والمجزرة..عنوان المرحلة!
** حذار من "الكفّ السوداء"!
فحذار من "الكفّ السوداء"..التي تتنقل من مكان إلى آخر..وتهدف إلى خلق الفتنة بين أبناء الشعب الواحد!
إنها "الناطق الرسمي" بلسان الوسواس الخناس..الذي يتربص بشعبنا ويعبث بمقدراتنا..ويتآمر على الفرح في عيون أطفالنا..ويطرب على "موسيقى" الدم النازف من جراحنا..
هذه الكفّ يجب أن تقطع!
ويلقى بأصحابها في جهنم..وبئس مصيرًا!
** حيطان العالم العربي..مليئة بالعناوين!
وهنا..يطرح نفسه السؤال التالي: من صاحب المصلحة الذي يحترف صناعة الفتن وزرعها في تراب الشعب الواحد؟
لقد علمتنا التجارب في مثل هذه الحالات أن نقول: فتش عن المستفيد!
لقد فتشنا للمرة الألف..فوجدناهم!
إنهم هم..إنهم هم!
ولا حاجة بنا اليوم للتفتيش عنهم!
فالعنوان مكتوب على الحائط!
وحيطان العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه..مليئة بالعناوين..وشتى اللغات!
تغصّ الدهاليز السوداء بالأفاعي الرقطاء وأولادها..بالخفافيش والوحوش والذئاب والكلاب والثعالب والعقارب!
وفي هذه الدهاليز يختبئ ألدّ أعداء شعبنا..وأعداء الإنسانية..وأعداء الحضارة!
إنهم أعداء القيم الأخلاقية السامية التي جاءت بها الأديان السماوية..والتي تدعو إلى الخير والمحبة وتطمح إلى تحقيق سعادة الإنسان في هذه الحياة!
** "كنيسة القديسين"..تغرق في بحر من الدماء!
وأخيرًا..
في الساعات الأولى من السنة الجديدة..تسللت "الكفّ السوداء" نفسها..إلى الإسكندرية..
لقد جاءت لتواصل "مسيرتها التاريخية" الإرهابية..فحطّت رحالها في "كنيسة القديسين"..وحصدت أرواح العشرات من المصلين الذين جاؤوا للاحتفال بالسنة الجديدة..
أناس أبرياء..رجال ونساء وأطفال جاؤوا ليقيموا الصلاة..متضرعين إلى رب العباد..وإلى رسول المحبة والسلام..أن يهل علينا العام الجديد حاملا محملا سلامًا ومحبة وسعادة..حاملا عالمًا بلا دماء..
يطل من عيونهم بريق الأمل في مستقبل أجمل..راجين أن يخيم على الأرض السلام..وأن تسود الناس المسرة..
الصلوات والدعاءات والتضرعات والابتهالات في ذروتها!
والأمل والتفاؤل وحب الحياة..في أعلى درجاتها!
وعلى حين غرّة..تظهر "الكفّ السوداء"!
وتأبى يد الغدر إلا أن تمارس مهنتها التي طُبعت عليها.."فتبدع" مجزرة أخرى!
ويغرق رسول المحبة وأمه مريم عليهما السلام..ويغرق"القديسون" و"كنيسة القديسين" وأشلاء الأبرياء..في بحر من الدماء!
** إستوصوا خيرًا بالقبط..
ويزدحم المشهد بالمفارقات العبثية!
أرى ماريا القبطية..زوجة النبي العربي (ص)..مبعثرة الأشلاء..على مذبح الغدر الذي أقامته الأيدي السوداء!
وتنتصب أمامي عبارة كتبت بماء الذهب.."إستوصوا خيرًا بالقبط..فإن لهم ذمة ورحمًا"..وعليها توقيع الرسول العربي (ص).
إن الرسول العربي (ص) يتململ في قبره!!
لا تتسع الكلمات للتعبير عن الغضب العارم الذي يملأ قلوب الناس الشرفاء..إزاء شلال الدماء الذي يغطي مسرح الجريمة..
فالكنيسة مجزرة!
تُرفع الكؤوس..ويشرب "المخرج" نخب الدماء..وعلى شفتيه ابتسامة سوداء!
حضارة القتل والاغتيال وسفك الدماء..حضارتهم!
ولا علاقة لها بشمس العرب..التي سطعت ذات عصر على الغرب!
** ألرجال مواقف!
قبل شهرين وفي رمضان الكريم..سجلت كنيسة الروم الكاثوليك..موقفا وطنيًا مشرفًا..فقد دعا قدس الأرشمندريت أغابيوس..الإخوة أبناء الشعب الواحد إلى إفطار رمضاني شاركت فيه جميع ألوان الطيف الاجتماعي والديني في مدينة حيفا..عروس الكرمل..
وكان لي شرف الحضور والمشاركة..وإلقاء كلمة بهذه المناسبة الكريمة..
وسجلت الكنيسة مأثرة وطنية من الدرجة الأولى..وهي مأثرة عميقة الدلالة..نعتز بها..وتصلح لأن تكون تقليدًا ونموذجًا يُحتذى به..وواجبنا أن نورثه لأبنائنا وبناتنا ولأحفادنا من بعدنا..ولجميع الأجيال الصاعدة من أبناء شعبنا..
ينضم هذا الرجل الوطني..قدس الأرشمندريت أغابيوس أبو سعدى..إلى كوكبة من رجال الدين الشرفاء..
ألمطران حجار..والمطران كابوتشي..والمطران ريا..والمطران عطا الله حنا..ومعهم جميع الناس الشرفاء..
لقد أحب هؤلاء الرجال شعبهم وأخلصوا له..فقاموا بواجبهم الديني والوطني والقومي..ويأبى التاريخ إلا أن يسجل مآثرهم بماء الذهب!
لمثل هؤلاء الرجال الرجال..تنصب التماثيل..في الساحات والميادين..وفي قلوب الناس الشرفاء أجمعين!
** "لقد أكلنا من صحن واحد"!
في وصف الخير والألفة والمحبة أيام زمان، قال آباؤنا وأجدادنا "لقد أكلنا من صحن واحد"..وقالوا "بيننا عيش وملح"!
فما هو واجبنا في هذه المرحلة التي تغطي سماءها غمامة سوداء "مارقة" عابرة!؟
واجبنا أن نحافظ على تراث"العيش والملح" و"الصحن الواحد"!
واجبنا أن نكون معًا دائمًا..أهلا وشعبًا وأبناء وطن واحد..
واجبنا أن نعمل معًا ويدًا واحدة من أجل الغد الأفضل..ومن أجل الحياة الحرة الكريمة..ومن أجل ميلاد فجر مشتهى..
واجبنا أن نعمل لاجتراح شمس الغد الأفضل لشعبنا ولجميع الشعوب المقهورة..من أجل أن يسود الأرضَ السلام..والناسَ المسرّة!
فالله محبة..الله محبة!
لتكن أيامنا كلها محبة!
وكل عام..وأنتم وشعبنا بألف خير!
حيفا
7/1/2011
|