"حيفا الجديدة" ـ هكذا سماها الشيخ ظاهر العمر - بقلم: جوني منصور
منظر عام لحيفا في الاربعينيات
حيفا الجديدة هو الاسم الذي أطلقه مؤسسها الشيخ ظاهر العمر حاكم شمالي فلسطين على المدينة التي أقامها في خمسينيات القرن الثامن عشر. وهي أحدث مدن فلسطين إلى ذلك الوقت. أما دواعي إقامتها فهي لكونها واقعة في موقع استراتيجي لتوفر حماية لعكا عاصمته، ولتكون في منأى عن هجمات القراصنة الذين بسطوا سيطرتهم على ساحل حيفا وغيره.
المدينة ومجتمعها
وتشكلت المدينة من حارتين رئيسيتين: الشرقية والغربية. تركز المسيحيون في الغربية والمسلمون في الشرقية. وأقامت كل شريحة مجتمع مؤسساتها الخاصة بها من معابد ومدارس وغيرها. وانتشرت الأسواق والمحلات التجارية ومؤسسات الإدارة والحكم في المدينة.
للمدينة سور يحميها
وأحاط الشيخ ظاهر مدينته بأسوار وبنى برجًا على منحدرات تلّة قريبة سماه "برج السلام"، أشرف من خلاله على المدينة ذاتها وعلى الحركة البحرية عند ساحلها، خاصة في خليج عكا.
وشهدت المدينة داخل الأسوار سلسلة من التطورات على مدار أكثر من قرن من الزمن شملت اتساعًا في حاراتها وزيادة في عدد سكانها وحركة التجارة فيها، مما منح المدينة أجواء من الاستقرار والهدوء والازدهار.
الجزار يعاقب المدينة
ويعتبر مبنى دير مار الياس السابق للحالي ألمبنى الوحيد تقريبا خارج الأسوار. أما سكان حيفا فلقد عملوا بالصيد والزراعة والتجارة على قدر استطاعتهم. وبرزت حيفا خلال استعداد نابليون بونابرت للهجوم على عكا، حيث اتخذ من دير مار الياس مقرا له. ولما عاد يجر أذيال الفشل، ترك جنوده الجرحى يصارعون الموت لوحدهم، وقفل عائدا إلى مصر ومنها إلى باريس. وعاقب الجزار الدير بأنه أمر بهدمه، إلا أن رؤساؤه أعادوا تشييده لاحقا.
حيفا مقر قيادة جيوش ابراهيم باشا
وتحول حال حيفا أثناء الحملة المصرية على بلاد الشام(1831-1841)، إذ جعلها ابراهيم باشا قائد هذه الحملة مقرًّا لقيادة جيشه. أما عكا فتعرضت إلى سلسلة من الضربات ألحقت بها ضررًا بالغًا. وشهدت حيفا خلال فترة الحكم المصري تطورًا كبيرًا، إذ بدأ كبار التجار ونواب قناصل الدول الأجنبية بنقل مراكزهم إلى حيفا، مما أكسبها مكانة أفضل وجعلها في مركز النشاط الحياتي على مختلف أشكاله.
البناء خارج الأسوار
أما موضوع البناء خارج الأسوار فبدأ مع منتصف القرن التاسع عشر، من خلال مبادرة بعض العائلات إلى إقامة منازلها في مواقع قريبة من المدينة داخل الأسوار. ومع الزيادة في سكانها وعدم قدرتها على تلبية كافة احتياجاتهم، وجراء وصول عدد كبير من السكان من فلسطين ومن البلدان المجاورة، ارتفعت وتيرة عملية البناء خارج الأسوار باتجاهين شرقي وغربي، على طول الساحل، مع صعود بطيء على منحدرات الكرمل المُطِلّة على البحر.
المشروع الالماني الاستعماري
وفي الوقت الذي شهدت فيه المدينة تطورًا عمرانيًا خارج أسوارها، نشطت حركة الهيكليين (التمبلريين) في بناء مستعمرة لهم في حيفا في عام 1869، من منطلقات دينية ليكونوا قريبين من الأراضي المقدسة، وليهيئوا أنفسهم لاستقبال المسيح القادم لخلاصهم، وأيضًا لتحقيق مشروع كولونيالي الماني غير معلن أو مُصَرّح عنه بالتفصيل. وهكذا أقاموا لهم المستعمرة في الطرف الغربي من حيفا، حيث اشتروا مساحات من الأراضي وبنوا منازلهم ومؤسساتهم، وعملوا في الزراعة والرعاية وبعض المهن والحرف اليدوية، وزودوا أنفسهم باحتياجاتهم، وكانوا شبه منقطعين عن السكان العرب في حيفا. واعتبروا سكان حيفا متخلفين وبدائيين.
زيارة القيصر الالماني تُثير توترًا في حيفا
وشهدت حيفا لسنوات طويلة توترًا بين الطرفين وأجواء مشحونة للغاية بينهم. وخاصة أثناء التحضير لزيارة القيصر الالماني فيلهلم الثاني وزوجته اوغوستا فيكتوريا إلى الأراضي المقدسة في شهر تشرين أوّل من العام 1898، ورغبة القيصر في بدء زيارته هذه بالنزول ضيفًا على أبناء شعبه في المستعمرة الالمانية بحيفا. فوقعت مشاجرات قوية وعنيفة بين أهالي حيفا والسلطات التركية والجالية الالمانية مما أدى إلى اعتقال عدد من شباب حيفا وزجهم في معتقل عكا. كان هذا التعبير عن الغضب من الالمان والأتراك نابع في أساسه من خوف أبناء حيفا من زيادة نفوذ الالمان وبسط سيطرتهم على قطاعات اقتصادية واسعة في المدينة وبالتالي التأثير على القرارات الإدارية والسياسية.
اليهود يقيمون أحياء خاصة بهم
وفي الوقت ذاته ازدادت وتيرة خروج الأهالي من حيفا داخل الأسوار والبناء خارجها، وكذلك بداية خروج الجالية اليهودية من الحي الذي كانت تعيش فيه داخل الشطر الشرقي من المدينة داخل الأسوار، أي بين المسلمين، فأنشئوا أولا حارة اليهود بالقرب من شارع العراق حاليًا، في عام 1891، وهذه كانت بدايات فقط. ثم بنوا حارة "هرتسليا" على أراضي المفخرة التي بادر إلى شراء قطع فيها شبتاي ليفي أحد سماسرة الأراضي الكبار في المشروع الصهيوني في منطقة حيفا وشيد لنفسه بيتًا في هذه الحارة، وكان ذلك في العام 1907. ثم نلاحظ أن البهائيين قد وصلوا إلى حيفا في العام 1909 حاملين معهم رفات مؤسس ديانتهم ميرزا علي ليدفنوها في حيفا، وأقاموا لهم معبدًا ومركزًا عالميًّا.
نشاط فكري وثقافي تقطعه الحرب الأولى
وفي أعقاب الانقلاب العثماني في استنبول في العام 1908 جرت عدة تحولات وتغيرات، كان نصيب حيفا منها لا بأس به، حيث تم تأسيس الصحف وعدد من الجمعيات الأهلية، وكان من أشهر هذه الصحف جريدة "الكرمل" لصاحبها ومحررها نجيب الخوري نصار. إلا أن حركة التغيير لم تستمر طويلا حيث اندلعت الحرب العالمية الأولى، وتحالفت الدولة العثمانية مع المانيا والنمسا مقابل الحلفاء بقيادة بريطانيا. وفرضت الحكومة التركية أحكام الطوارئ وأغلقت البلاد في وجه أي شيء قادم من الخارج، كما أنها تبنت أساليب القمع والملاحقات السياسية ضد كل من سولت له نفسه وأبدى رأيًا مناهضًا للحكم القائم. ولقي كثيرون من أهالي حيفا حتفهم جراء انتشار الأوبئة كالتيفوس والكوليرا، وكذلك وصل الجراد إلى البلاد وأكل الأخضر واليابس، ولم يُبقي على أي شيء فيه حياة.
حكم جديد وبداية الصراع
وما أن انتهت الحرب العالمية الأولى حتى استيقظ أهالي حيفا على حكم جديد ونظام حياة مختلف عما ألِفوه على مدار عشرات السنين.
وكانت بداية الحكم البريطاني أو ما عُرِف لاحقًا بـ "الانتداب البريطاني" ما هو إلا احتلال جديد لفلسطين، وتحضير هذا الوطن الغالي لإقامة مشروع استعماري هو "الوطن القومي لليهود"، ليكون أداة بيد القوة الاستعمارية الأكبر في العالم. وتم التعبير عن رغبة بريطانيا في دعم هذا المشروع من خلال إصدار تصريح بلفور في الثاني من شهر تشرين الثاني ـ نوفمبر 1917.
حيفا "أم الغريب"
وشهدت حيفا تطورًا ملحوظًا في قطاعات اقتصادية عديدة وفرت فرصًا للعمل فيها كثيرة للغاية، واحتاجت إلى أيدي عاملة لم تتمكن المدينة نفسها سدها، فجذبت عشرات آلاف العمال من الجليل ومناطق شمالي المثلث اليوم ومن شرقي الاردن ولبنان وحوران. وهؤلاء بنوا لهم عائلات وبيوت ومصالح، وأصبحوا مكونًا أساسيًا من عناصر مكونات المدينة اجتماعيًا وثقافيًا ودينيًا واقتصاديًا. وشهدت حيفا أيضًا مظاهر من النمو والازدهار الثقافي عن طريق فرق التمثيل المسرحي وعرض الافلام والنشاطات الكشفية والرياضية وسواها التي أثرت الحياة الثقافية العامة في المدينة وجعلتها مدينة ذات ثقافات متنوعة تحاول أن تنصهر في بوتقة واحدة، مرة تنجح وأخرى تفشل.
اليهود يقيمون لهم مؤسسات مستقلة عن المدينة
مقابل هذا النمو الذي شهده المجتمع العربي شهد المجتمع اليهودي المهاجر إلى حيفا نموا وازدهارا سريعا بفعل دعم مؤسساته الصهيونية لتحقيق ذلك. ومن بين هذه التحولات لصالح تحقيق المشروع الصهيوني في جعل حيفا مدينة يهودية في نهاية المطاف، وذلك من خلال السيطرة على مفاتيح المدينة الإدارية(البلدية ومؤسسات الإدارة والحكم المحلي)، وبناء مؤسسات تعليمية عالية (التخنيون) ثم في السيطرة على الصناعات الثقيلة فيها ومنشأة الميناء والسكك الحديدية، والإسراع في بناء أحياء يهودية منفصلة عن الأحياء العربية التي شكلت المدينة بصورة طبيعية أسوة ببقية المدن في فلسطين.
احتلال المدينة تدريجيا بلوغا لحظة الحسم
تحقق المشروع الصهيوني في احتلال حيفا تدريجيًا. أي احتلال مؤسساتها الإدارية ومؤسساتها الاقتصادية، ثم احتلالها عسكريًا بتنفيذ خطة المقص (مسبرايم) التي وضعتها قيادة الهاغاناه وتنص على تنفيذ هجوم كاسح على الأحياء العربية من الأحياء اليهودية خاصة من الهادار ونافيه شأنان، وحصر العرب ضمن طرفي المقص ودفعهم إلى الميناء حيث كانت تنتظرهم سفن وقوارب وزحافات نقلتهم أولا إلى عكا ومنها إلى صور وصيدا وبور سعيد.
أين الجيران اليهود والأصدقاء الانجليز!!
كان كل ذلك يتم على مرأى من سكان حيفا اليهود الذين بلغ عددهم قرابة السبعين ألفًا، ولم يحركوا ساكنًا بالمطلق، عدد كبير منهم تعامل، قبل احتلال حيفا على يد الهاغاناه، مع العرب اقتصاديًا واجتماعيًا، ولكنهم توافقوا جميعًا مع أسس خطة إبادة حيفا العربية سكانًا وعمرانًا. كانت القيادة الصهيونية تتبجح أن حيفا بلد التعايش المشترك، ولكنها في الخفاء كانت تعمل على بناء أسس مدينة يهودية مستقلة بالتمام والكمال عن حيفا الأم. بل ذهبت هذه القيادة إلى أبعد من ذلك، في محاولة منها لترويج فكرة أن أحدًا لم يطرد العرب سكان حيفا، بل خرجوا لوحدهم وبقرار خاص بهم. من يا ترى يصدق هذا التلفيق والكذب؟ إذن، لماذا وضعت خطة "المقص"؟ هذه الخطة التي تحتوي في مركباتها على تنظيف وتطهير المدينة من سكانها العرب وتحويلها إلى مدينة عبرية، أليست "الخطة" دليلاً قاطعًا (من أرشيفهم) يفضح ادعاءاتهم؟!. عندما كانت السفن تنقل أهالي حيفا العرب، كان أصدقاءهم وجيرانهم أهالي مدينتهم من اليهود الذين عاشوا فيها معا يتفرجون عليهم من أعالي الكرمل ولم يحركوا ساكنا. تم كل ذلك في وضح النهار وبدعم بريطاني، وإشراف القيادة العسكرية البريطانية التي تشهد الصور الفوتوغرافية على وجودها وعدم تحريكها ساكنا لوقف نزيف النزوح العربي عن المدينة.
نهاية مدينة...
وهكذا انتهت مرحلة مثيرة من تاريخ حيفا العربية، ليتحول معظم سكانها الأصليين إلى لاجئين في المخيمات، ومن بقي منهم (قرابة ثلاثة آلاف) إلى أقلية مهمشة وجانبية تحاول بقوة عجيبة ان تصارع من أجل البقاء والعيش بكرامة على أرض الوطن.
ميناء حيفا القديم
جنود الهاغاناه في زقاق الموارنة بعد احتلال حيفا عام 1948
جنود انجليز يشرفون على حيفا وهي تتهاوى بيد الهاغاناه