"ميسي" في غزة الجميلة
د. خالد الحروب ــ كامبردج

نلمح "تي شيرت" فريق برشلونة الشهير عالميا يخترق زقاقا من أزقة مخيم الشاطئ في مدينة غزة. ولد في السادسة من عمره يركض حافي القدمين كالرمح. على صدره يحمل الـ "تي شيرت" إشارة اليونيسيف، وعلى ظهره اسم اللاعب الأرجنتيني الساحر "ميسي" ورقمه في الفريق الكتالوني.

رجونا الولد أن نأخذ معه صوره، فلم يتردد. منح الكاميرا ابتسامة باتساع الكون. تساءل زملاء أجانب "من اين يأتي بكل هذا الفرح؟"، إذ كان يدوس الحصار بقدميه العاريتين. من بحثوا عن الحصار، وجدوا إرادة ولد أكبر من الكون. "من أين يأتي بكل هذا الفرح؟" الجواب يأتي من صوب البحر الراسي في نهاية الزقاق، على بعد رمية حارس مرمى: من يملك البحر يملك أولادا يفرحون ويدوسون الحصار بأقدامهم العارية. لم يقرأ الولد تميمة محمود درويش "هذا البحر لي، هذا الهواء الرطب لي"، لكنه كان الكلمات ذاتها نبتت في الأرض، قبل أن تنبت بين أصابع الشاعر.

المدينة ذات البحر لا يحاصرها اليتم. البحر يمنحها أفقا تحسدها عليه المدن المحاصرة باليابسة. يصل شطها الموج الهادئ بدلال غيداء تطلع من الغيب، فيفتح أبواب الكون لها. يتكسّر الموج الصاخب على شطها، رماح أعداء صدها هواء الرمل. مدن البحر لا تحاصر. في استدارة البحر وغموضه تكمن أسرار كثيرة. وفي عيون صياديها صلابة ورقة وغيب يخبئ الكثير ولا يكشف سوى القليل. عكس ذلك هي مدن اليابسة، تختلف، وفيها الشيء وضده. الجبلية منها تحضنها التلال، لكن تحاصرها وتكاد تخنقها. السهلة منها مفتوحة على الأفق، وعلى الغزاة. هل يكتمل جمال مدينة ما؟

صورة غزة التي كرّسها الإعلام الفضائي ظالمة ويجب أن تُرفض: بائسة، ضحية، متسولة، وكابية. جحافل الكاميرات لا تلتقط إلا ما يقول للعالم هذه بقعة لا تستحق إلا الرثاء، يكبلها المستحيل، فيا أصحاب المكرمات جودوا عليها بفضلات عطاياكم. هذا يجرح كل الغزيين. كبرياؤهم لا تريد هذه الصورة. يمرون في محنة، نعم. وحشية إسرائيل ولغت في دمهم، وفي خبز اولادهم، نعم. يؤلمهم تخاذل العالم عن نصرتهم، نعم. لكن ما يريدونه هو الفأس والمحراث، لا الصدقات العابرة. قال لنا: "معاناتنا هنا كما هي معاناة غيرنا، ليس هنا فرادة نعتاش عليها ونتسول بها، نواجه ما نواجه برجولة ومن دون انحناءة رأس. نريد مؤازرة الجميع، لكننا لا نريد شفقة أحد".

صورة قطاع غزة في الإعلام، العربي والغربي، آن لها أن تتغير. على امتداد الأربعين كيلو مترا على ماء المتوسط اللازوردي يتكئ الرمل على أصوات من مروا هنا منذ فجر التاريخ. مروا جميعا وبقي الرمل متوسدا ذاته بخيلاء. في هذه الزاوية البديعة من الأرض تلتقي آسيا وأفريقيا، المعبر الأرضي الوحيد بينهما، يمر منه كل القادمين من مصر إلى بلاد الشام، أو بالعكس. الشارع الأول في رفح والذي يطأه القادمون من مصر يُسمى شارع آسيا، لأنه أول بقعة من القارة يدخل إليها المسافرون من البلاد السمراء. يترك القادمون تواقيعهم ويمرون، كما لملمها "متحف قصر الباشا" في قلب غزة القديمة. لا يسمع أغلب الناس بأن في غزة متحفاً فيه قوارير ومعادن وفضيات ونقود مسكوكة تعود إلى عهود اليونان والرومان والمماليك. من على سطح "قصر الباشا"، البناء المملوكي الفخم الذي بُني في عهد الظاهر بيبرس، ترى غزة كما لا تراها عين كاميرا التلفزيونات التي لا تلتقط إلا أزقة مجاريها. في هذا القصر أقام حكام غزة من المماليك والعثمانيين، وأقام نابليون بونابرت ثلاث ليال سنة 1799 وهو في طريقة إلى مصر، بعد فشل حملته على عكا. على جانبي باب القصر هناك نحت لأسدين متقابلين وهما شعار الظاهر بيبرس عازماً على مواجهة وهزيمة عدوين: المغول والصليبيين. جدران غرف القصر الجميلة وسقفه المرتفع تتعالى على كل العابرين هنا، وتسجل بالحروف الأولى: هنا في "قصر الباشا" تاريخ غزة يعود إلى ألوف سنين ما قبل الميلاد، هنا تنام جغرافيا سابع أقدم مدينة في العالم.

غزة الأموية والمملوكية والعثمانية لا تزال ماثلة بوجوه متمايزة، كثيرة تتوق إلى الترميم. جامع عمر الذي بُني بعد فتح صلاح الدين لفلسطين، الجامع المرواني يحتضن مقام الشيخ علي ابن مروان، جامع السيد هاشم الذي يحتضن قبر جد الرسول، عيون وسبل الماء الجارية فاق عددها المائتين. الكنيسة الأرثوذكسية في غزة تتدفأ بتاريخ عريق، وتداولها التجديد والبعث. جدرانها وأيقوناتها تعود إلى القرن الخامس الميلادي. والكنيسة الكاثوليكية والبروتستانتية أقيمتا في القرن التاسع عشر.

منطقة "المحررات"، او المستوطنات السابقة، صارت مزارع ومشاريع تصالحت فيها الأرض مع البحر بعد رحيل الغزاة. من هناك، من حد رفح مع المتوسط ومصر، سيرا إلى الشمال نحو المنطقة الوسطى، يغسل البحر أخطاء التاريخ. يحضن البحر صيادين تحاصرهم إسرائيل وتضيق عليهم رقعة الصيد، لكنهم أخبر بالبحر من عدوهم. يعرفونه موجة موجة. يعودون بالسمك الطازج ليقدموه مشويا إلى ضيوفهم محفوفاً بأغنيات البحر ودبكات الموج.

ما تهدف إليه هذه السطور هو تدوير زوايا الكاميرا كي نرى أشياء أخرى في غزة المحاصرة. تريد أن تقول إن دفق الحياة أقوى من كل الحصارات. وإن جمالها أجمل من بشاعة السياسة التي لوثت هواءها، وأبقى من كل من لا يفك أسرارها. من يصالح غزة يتحول إلى جزء من رمالها، من يخاصمها ولا يهتم بها ترسله إلى متحف قصر الباشا. ما تهدف إليه هذه السطور رفع زاوية النظر والإطلالة على غزة من فوق كي نرى المشهد جميلا بكامله، بعيدا عن التفاصيل الصغيرة والعابرة والممضة. المشهد العريض هو الذي يبقى، وتمر التفاصيل.

في روايته المبدعة الجديدة "فريدام" (Freedom) ينحاز الروائي الأميركي الأكثر مبيعا جوناثان فرانزن إلى الزاوية العريضة في تأمل الأشياء، مخالفاً هوسا روائياً سيطر على فن الرواية في العقود الأخيرة الغلبة فيه للتفاصيل الصغيرة. كل من النظرتين، العريضة والتفصيلية، لا تغني عن الأخرى، بل تتكاملان. من ينهكه النظر في الشجرة وأغصانها يغيب عنه اتساع الغابة وتعقيدها. ومن لا يرى إلا الغابة وامتداد حدودها لا يفقه أهمية الشجرة وأخواتها في تشكيل الغابة نفسها.

كاميرا الزاوية العريضة التي تنداح مع أفق غزة تريد تحريرها من كاميرات الأشجار الصغيرة، لتعادل الصورة بالصورة. لتقول غزة العريضة جميلة وباقية، غزة الضيقة عارضة وعابرة. الولد الراكض في مخيمها، عاري القدمين، مبتسما، ومرتدياً "تي شيرت" برشلونة هو فارسها ومستقبلها وافقها، شجرتها وغابتها.

تاريخ نشر المقال 04 تشرين الأول 2010

8/10/2010




® All Rights Reserved, ABNAA' SUHMATA Association
  Best experienced using MS Internet Explorer 6.0, Screen is optimised for viewing at 800 x 600