عطر عبدالناصر يفوح بذكرى الرحيل والسينما توثق شهادتها بشعار الاستقلال،
إرفع رأسك يا أخي..



الشاشة تتسع والكادر السينمائي يحتضن صورة صانع الثورة.

القاهرة ـ 'القدس العربي' ـ من كمال القاضي: كانت الحركة السينمائية يقظة وواعية تمام الوعي بأهمية توثيق حياة الزعيم جمال عبدالناصر التي بدأت في عام 1918 واستمرت حتى 28 ايلول/سبتمبر 1970، ورغم قصر المرحلة الزمنية إلا أنها زخمت بالكثير من الأحداث وظلت ثرية من الناحية السياسية والإنسانية ومازالت، فبالإضافة لما تضمنته الأفلام الروائية الطويلة جاءت الأفلام التسجيلية صريحة وواضحة في هذا الخصوص، فمنها ما انحاز بشكل كامل للمرحلة الناصرية ومنها ما كان له بعض التحفظات، ولكن في النهاية يبقى الصدى وما تحدثه الثورة ويخلفه الحوار من حراك ثقافي يؤكد أن الذين صنعوا أفلاما عن عبدالناصر كانوا محقين في اختيارهم للبطل والمسيرة، وربما التجربة الأكثر وضوحاً جاءت للمخرج اللبناني سايد كعدو تحت عنوان 'إرفع رأسك يا أخي' والعنوان يحفل بمعان ودلالات كثيرة قد تكون غائبة الآن عن الكثيرين، من يتأمل شخصية الرئيس جمال عبدالناصر وهيئته وهيبته لا يجول بخاطره أن يكون هذا الرجل الذي يشغل العالم كله مشغولا بأمر آخر غير السياسة ولا معنيا بترف الروح ورفاهيتها، وترتيب العقل وتحسين الذائقة الفنية والأدبية لدى النشء الجديد من أبناء الوطن الحبيب، المسافة تبدو شاسعة بين هموم زعيم امتلك كاريزما خاصة وتربع داخل قلوب الملايين من أقصى المشرق إلى أدناه، حيث لا مكان في رأسه لقضايا أخرى غير القضايا المصيرية كتلك المتعلقة بالاستقلال والبناء وتحرير الشعوب والأراضي المغتصبة، هذا التصور هو الأكثر منطقية في تحديد أولويات البرنامج اليومي في أجندة الزعيم عبدالناصر، ولكن المفارقة كانت في ذلك الاقتراب العجيب بين الهم السياسي والهم الفكري، فهو يدرك بإحساسه الوطني المرهف أن العزف المنفرد على وتر السياسة فحسب لا يمكن أن يوحد النغمة بين كل العناصر في أوركسترا الثورة، موقناً أن إغفال أي جانب من الجوانب الإنسانية يمكن أن يعصف بالحلم القومي ويذهب به أدراج الرياح، وعليه فقد مضى ناصر في مسيرته النهضوية بتواز منضبط بين مقومات العقل السياسي وتخصيب الوجدان، وقد خط بيده خريطة الرسم البياني لتفعيل دور الفن والفكر داخل المنظومة السياسية من دون إقحام، فشرع في تحديد مواقيته وأعياد ثانوية لتكريم العلماء والمبدعين ورصد الجوائز التقديرية والتشجيعية وعمل على إبراز المواهب في مختلف المجالات كالنحت والتصوير والموسيقى والغناء والسينما والمسرح، وأنشأ في هذا الإطار أكاديمية الفنون ليربط المواهب التلقائية بمناهج دراسية قائمة على أصول علمية بحتة ليسهل توظيفها توظيفا تقنيا دقيقاً، فيما كان برنامج البعثات الخارجية ينشط وفق خطة مدروسة للانفتاح على الثقافات العالمية من دون التماهي في هوية الآخر أو التقاطع مع ثقافته الاستعمارية مثلما حدث في عهود تالية.

وكما كان ناصر يرصد عن كثب نشاط وتفوق المؤسسات الجماعية كان ايضا يدرك حركة الأفراد ويضع تجاربهم تحت مجهره الخاص، وربما يأتي إنزعاجه لهجرة فاتن حمامة إلى بيروت في منتصف الستينيات دالاً على ذلك، فقد قرأت في إحدى الصحف اللبنانية أن سيدة الشاشة العربية تعتزم تكريس نشاطها الفني في بيروت بادئة رحلتها بفيلم جديد مع يوسف شاهين فطلب من زكريا محيي الدين رئيس الوزراء آنذاك، أن يجد في معرفة أسباب وملابسات قرار فاتن حمامة باعتزال الفن في مصر وأن يعيدها الى القاهرة مؤكدا انها ثروة قومية لا يجوز التفريط فيها، وبالفعل كلف زكريا محيي الدين سعد وهبة بهذه المهمة، حيث كان يشغل منصب رئيس المؤسسة العامة للسينما الذي اتصل بدوره بالمنتج رمسيس نجيب ليستوضح منه الأمر ويدعوه لإجراء اتصال هاتفي مع فاتن حمامة يبلغها فيه رغبة الرئيس عبدالناصر بعودتها فوراً إلى مصر.

ولكن لأسباب تتعلق بظروف مصر السياسية بعد نكسة 67 ترك زكريا محيي الدين رئاسة الوزراء وسعد وهبة رئاسة مؤسسة السينما وانشغل الرئيس جمال عبدالناصر وبقيت فاتن حمامة في بيروت، وظلت اشياء كثيرة معلقة، إلى أن نهضت مصر من كبوتها إبان انتصارات الاستنزاف المتتالية فشكلت وعياً جديدا واستعاد الإبداع عافيته معلنا شعار التحدي عبر الريشة والفرشاة ودقات المسرح الثلاث وصوت الأغاني المقاتلة التي أنذرت العدو بالهزيمة وأنبأته بها مبكرا في مضمون روائع عبدالحليم حافظ وبليغ حمدي وأم كلثوم وكمال الطويل والأبنودي، تلك التي تراوحت بين الشدو وبعث الروح الوطنية لدى الجماهير المتعطشة للقتال والانتصار، فكانت الأغاني الهادرة تطرق القلوب وتشعل النار في الصدور، 'خلي السلاح صاحي أصبح عندي الآن بندقية روح الأمة العربية مصر تتحدث عن نفسها فدائي'، وكذا غدت الأدوات الفنية تشكل فيما بينها نموذجا هندسياً متساوي الأضلاع مثبتا فوق قمته الهرمية علم العروبة ومعززا اسم قائد يوليو بشموخه وكبريائه نزولا عند إرادة الملايين التي آمنت به زعيما مرفوع الهامة منتصب القامة، وكما تجاوبت مفردات الحياة الإبداعية مع ناصر، تجاوب هو معها فأمر بدعم كل الحركات الفنية ورفض أي قيد على كبار المبدعين فدافع عن حق توفيق الحكيم في نقد الثورة في مسرحيته السلطان الحائر، كما دافع عن حق نجيب محفوظ في الإبداع والنقد، فضلا عن رفضه مصادرة فيلمي 'باب الحديد' و'شيء من الخوف'، بل لقد أمر بعرضهما وشاهدهما بنفسه وأحيا أعياد الثورة بما يليق بها مستعينا برموز الحركة الفنية وقناديلها، فعم التنافس وانجلت آياته في وقائع عكست روح التحدي والإنجاز وتبدد ظلام يونيو الحالك في ضوء الإيمان المطلق بحق الشعوب في الحياة، ذلك الإيمان الذي قلص المسافات بين النخبة المبدعة وزعيمها الحر، فمنح عبدالحليم حافظ لقب ابن الثورة الشرعي ولسان حالها، وأم كلثوم كوكب الشرق وفريد الأطرش ملك العودة وفيروز شادية الجبل وعبدالوهاب راهب الموسيقى وبيتهوفن العرب وسميحة أيوب سيدة المسرح، وكلها ألقاب منح عبدالناصر أصحابها درجة الاستحقاق، فيما حارب في نفس الوقت ألوان الابتذال ومنع السخرية كفعل يهدف الى الاستهزاء، مثلما كان قراره بإلغاء المحاولة الأولى من برنامج الكاميرا الخفية عندما شاهد في إحدى حلقاته رجلا بسيطا يقع في شرك اللعبة المتفق عليها من قبل المعد والمخرج ولاحظ على وجهه امارات الخجل والإهانة فأمر على الفور بإلغاء البرنامج الذي وصفه بالسخف وحذر من تكرار التجربة حرصا على مشاعر من كان يعتبرهم أهله وذويه، وما أبعد الليلة عن البارحة، حيث لا يحلو الضحك والمزاح في الليالي السامرة الساهرة إلا على نواقص الناس وجهلهم!

الزمن مجاف بكل رموزه وشخوصه وتوابعه لماضيه ومقطوع الصلة بأحلامه وأمجاده وقيمه النبيلة. لقد كرس الزعيم عبدالناصر حساً ثورياً مازال محمولا على لافتاته ومرسوماً في ملامحه المعلقة على جداريات القلب ترفض الاستسلام والهزيمة، بكت العيون على غيابه ولكن ما لبث الحضور أن تجدد معطوفاً على ما قبله من حضور باعثا روحه الطيبة في أجيال لم تره، لكنها تتنسمه عطراً وتتلمسه منجزا حياً لا تخبو شمسه مادامت جذوة الثورة مشتعلة، وبقي ثراه ليناً رطباً.



30/09/2010




® All Rights Reserved, ABNAA' SUHMATA Association
  Best experienced using MS Internet Explorer 6.0, Screen is optimised for viewing at 800 x 600