الثوب الفلسطيني: تراث يحكي حكاية شعب وفن من أجل ممارسة الحياة
|
إن إحياء التراث والحفاظ على خصائصه الفنية وإبراز أصالته يعتبر تخليدا لحضارة عريقة. فالفن يظهر مدى ثقافة الشعوب من حيث الزمان والمكان. وهناك طرق كثيرة لتسجيل الخطى التي مرت بها الإنسانية، فبينما تنقش بعض الحضارات تاريخها على الصخور إذا بحضارت أخرى تسجل أمجادها في أساطير وأشعار يترنم بها الناس. والماضي قد يحيا في الحاضر، ولكنه قد يفنى فيه أيضا، على قدر وعي الناس به أو إعراضهم عنه، حيث أن شرط الإفادة هو التواصل في توريث التراث، والاستمرار في الحفاظ والإحياء. وحتى يصبح التراث حيا موجودا بالفعل يحتاج الى جهود للكشف عنه وحمايته وإبرازه، حتى يسري في الوعي الجماعي للناس ويمكنهم من فتح آفاق جديدة لهم. وربما يكون ذلك أحد الأسباب التي دفعت مجموعة من النشطاء على صفحات ' الفيس بوك' وبعض المواقع الالكترونية إلى إطلاق ' حملة شعبية للدفاع عن الكوفية والثوب الفلسطيني' كأحد رموز التراث الفلسطيني والذي يمثل مختلف الحضارات التي وطئت أرض فلسطين..فالتراث الفلسطيني مثل أي تراث في العالم تأثر بالحضارات والثقافات والأمم التي مرت على فلسطين. فكل حضارة من تلك الحضارات تركت أثرا بارزا في هذا التراث، سواء كان في العادات والتقاليد او في الزي..... فالهدف من هذه الحملة والمبادرة هو دعوة لبعث هذا التراث وإنهاضه من أجل إيقاف عمليات السطو على الإرث الفلسطيني. ويعتبرالثوب الفلسطيني هو السبيل لإثبات هوية المجتمع وإبراز خصوصيته.... فما هي حكاية الثوب الفلسطيني وماذا يمثل؟
إن الفن الشعبي هو تعبير دقيق عن الخبرة الفكرية والوجدانية، والمهارة الابتكارية للمجتمع، ولا نبالغ إذا قلنا إن الأزياء والملابس تعتبر من أكثر شواهد المأثور الشعبي ومن أهم الوسائل المستخدمة في الكشف عن تراث الشعوب عبر الأجيال المختلفة، كما يستدل بها على كثير من المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. والزي يدل على الهيئة والمنظر واللباس كما جاء في معجم الوسيط، أي أنه يعني النموذج أو الصورة المألوفة في العين والذاكرة معاً، وهو عادة مأخوذة من العادات والتقاليد من جهة، والطبيعة من جهة أخرى، وتأثير الطبيعة في الأزياء الشعبية بشكل خاص أوضح وأمضى وأكثر امتدادا. وقد أكدت الدراسات أن الأزياء الشعبية تعكس الأبعاد الجغرافية والتراثية والاجتماعية فهي تشكل تراثاً شعبياً يعكس هوية انتماء من يلبسه إلى الموطن الجغرافي من خلال التوزيع الجغرافي والاجتماعي لتلك الأزياء. وهي إن اختلفت في أشكالها وألوانها فإنمـا تعبـر بذلك عـن مراحـل تاريخية مختلفة مرت بهـا الأمـة، وسجلت على النسيج أفراحهـا وعاداتهـا وأساليب حياتهـا المختلفـة. والثوب الفلسطيني لا يمثل فقط مجرد انه ثوب، بل انه فن وثقافة وقطعة تراثية تتبخر برائحة الفلكلور، ويحمل بين طياته معاني متعددة، وشاهد على التاريخ الفلسطيني وتعبير اجتماعي عن ارتباط الإنسان بأرضه. فقد كانت الأم الفلسطينية تصنع بيديها كل أثواب أولادها وبناتها، وبالذات أثواب البنات اللاتي يلتقطن منها الطريقة والأسلوب من جيل الى جيل، وهكذا يتشكل التراث، حيث تتوارث النساء إتقان هذه الصناعة الدقيقة من جيل الى آخر في الأسرة الواحدة، فالأم الفلسطينية تصنع لابنتها نحو 12 ثوبا آخرها هو ثوب الزفاف، الذي بعده تنتقل البنت الى مرحلة صناعة أثوابها وصناعة اثواب بناتها، وبذلك تكتمل الدائرة وينتقل التراث الى الفتاة التي ترتفع به الى مستوى جديد مع المحافظة على عدة سمات أصلية فيه. وقد قام الباحثون بتقسيم الأزياء الى أزياء نسائية وأزياء رجالية، فوجدوا أن الأزياء النسائية فيها الكثير من القواسم والمواصفات المشتركة مع اختلافها في بعض المواصفات الجزئية المتعلقة بالألوان والزخارف.
وثوب المرأة الفلسطينية نجد فيه الكثير من التنوع، ونجد أن لكل مناسبة أزياءها الخاصة، كما يتميز بأشكال ورموز وزخرفة رائعة اختيرت بعناية وبساطة وذوق وفن. ويعتبر التطريز صناعة حرفية فلسطينية عريقة تعتمد اعتمادا كبيرا على العمالة النسائية في الريف الفلسطيني. فالمرأة الفلسطينية تمتلك ثقافة متوارثة منذ مئات السنين، إذ أنها فنانة بالفطرة.... ولا عجب في ذلك فهذا المخلوق اللطيف وما يمتلكه من طاقة وقدرات خصها الله بها استطاعت عبر مراحل التاريخ أن تلعب دورا نوعيا وتترك بصمة خاصة في الحفاظ على هوية الأمة وتراثها، وإذا كان التوثيق هو ذاكرة الوطن.. فإن المرأة هي ذاكرة الأمة وروح أصالتها وحضارتها، فأينما توجهت على امتداد مساحة الوطن تجد بصمات تلك المرأة وإبداعاتها وفنونها ماثلة للعيان... وتختلف أشكال التطريز وأساليبه من مكان لآخر ومن منطقة الى أخرى، وكذلك حسب ذهنية وذوق المرأة التي تخلق تعبيراته من ظروف الحياة والبيئة والتضاريس التي تحيط بها. وتعتبر أبرز المدن الفلسطينية التي ذاعت شهرتها في أعمال التطريز بيت لحم، وبيت دجن، ورام الله ، والبيرة. ولهذا تتميز الثياب من منطقة الى أخرى بأسلوب التطريز وشكله، فنجد على سبيل المثال أن الزي البدوي في شمال فلسطين وجنوبها مختلفان بشكل واضح وجلي، وهذا الاختلاف يعود الى الفروق في الوضع الاجتماعي والاقتصادي وفي الثقافة والموروثات الحضارية. أما الأزياء الريفية فتدل تطريزاتها على ما في الطبيعة الريفية من روائع، كالنجمة والزهرة والسنبلة، وتتميز بتكرار وتنوع الاشكال الهندسية ويعتبر هو الزي السائد في فلسطين، وجدير بالذكر ان من أجمل أثواب فلسطين ثوب عروس ' بيت دجن' الذي يمتاز بالكتان الأبيض وبالتطريز الكثيف على الصدر وعلى جوانب الثوب ويزين الرأس الغطاء المحمل بقطع العملة الفضية، وقد حظيت أثواب بيت دجن باهتمام عالمي بسبب تفردها.
وتستخدم المرأة الفلسطينية في تطريزها أنواعاً متعددة من الخيوط تختلف حسب ثقلها وثمنها. ففي حين أن الخيط القطني يطرز به على كل أنواع الألبسة وهو رخيص، فان خيط القصب تطرز به أثواب المناسبات والاحتفالات. كما نجد أن أسفل الثوب وجانباه وأكمامه وقبته هي مناطق التزيين، لان هناك اعتقاداً بأن الأرواح الشريرة تدخل من الفتحات الموجودة في ملابس الإنسان..!! ولذلك تعمل المرأة على تطريز فتحات ونهايات الثوب. أما أقمشة التطريز فأجودها الكتان والقطن، ولكن هناك مناطق يحرصون فيها على استخدام الحرير في صنع الثوب مثل منطقة الشمال، أما في وسط فلسطين فيستخدمون القطن. كما أن هناك اختلافاً واضحاً بين الثياب التي تعد للعمل وثياب الأعياد والمواسم، حيث أن ثياب العمل لا تزخرف، وترتدي المرأة الفلسطينية أنواعا عديدة من الأثواب، منها الثوب المجدلاوي، وثوب الشروقي، والثوب القلم ( وهو من حرير مخطط بأشرطة طويلة من النسيج نفسه) والثوب التوبيت السبعاوي ( من قماش أسود عريق يصنع في منطقة بئر السبع)، والثوب التلحمي ( عريق جدا ومخطط بخيوط داكنة)، والثوب الدجاني ( وهو نوعان، وذو الأكمام الضيقة، والردان ذو الاكمام الواسعة)، والثوب الزم أو العروق ( أسود، ياقته دائرية)، والثوب الاخضاري ( من حرير أسود)، وثوب الملس القدسي ( من حرير أسود، خاص بالقدس ومنطقتها) ، وثوب الجلاية ( منتشر في معظم مناطق فلسطين، ويمتاز بمساحات زخرفية من الحرير) وهناك أيضا الحزام النسائي أو ( الشداد)، وهو يصنع من قماش مقلم ويعقد من الامام، ويبطن أحيانا ليبقى منبسطا على الخصر. أما عن الألوان فتؤخذ من النباتات، من محار البحر وقشر الرمان، وأكثر الألوان التي تستخدم في تطريز هذه الأثواب هو الأحمر الداكن ' القرمزي' وتكون قطعة القماش التي يتم التطريز عليها ذات لون أسود كما تستخدم أحياناً بعض الألوان كالبرتقالي والأصفر والفوشيا لتعبر عن الفرح وخاصة في فستان العروس.
وهناك مراحل عدة مر بها الثوب الفلسطيني، وكل مرحلة أضافت جديدا للثوب، وكانت الإضافات معبرة تماما عن المرحلة التاريخية التي مرت بها الأراضي الفلسطينية. المرحلة الأولى امتدت من 1948 الى 1963، انشغلت فيها المرأة في إضافة كل ما هو جديد للثوب الفلسطيني من وحدات هندسية وأشكال زخرفية وكل ما يعبر عن حال الأرض في حينه، فراحت تنسج خيوطها الحريرية لتكون أشكالا وعروقا زينت الثوب بألوانها المتناغمة المنسجمة، وتحمل معاني ودلالات هامة عن القضية الفلسطينية، في حين أنه ' في المرحلة الثانية والممتدة من 1948 الى 1965 لم يشهد الثوب فيها أية اضافة في الوحدات المطرزة، فقد انصب جهد المرأة في هذه المرحلة على الحفاظ على التراث قدر المستطاع في ظل عمليات النهب والتدمير والشراء التي اتبعتها قوات الاحتلال طمعا في الاستيلاء على الأرض والتاريخ والتراث والحضارة ونسبتها لها دون اي حق.'
وفي المرحلة الثالثة والتي تمثلت في الفترة ما بين 1967 و 1994 بدأت الإضافات تندثر، والسبب الأول لذلك يعود لكون الاحتلال بدأ بعمليات نهب التراث الفلسطيني...وثاني تلك الأسباب يكمن في زيادة نسبة التعليم في الأراضي الفلسطينية حيث انصرفت المرأة الى التعليم وأهملت العمل بالتطريز إلى درجة أن البعض بالغوا في النظر إليه على أنه تخلف يجب التخلص من تبعاته ومواكبة العلم، ولم يشعروا بأنهم بذلك حققوا أمنية الاحتلال في قتل التراث الفلسطيني.
أما زي الرجل الفلسطيني فهو بعيد كل البعد عن الزخارف ويرمز الى مواصفات الرجل العربي الأصيل الذي يتحلى بالكرم والشجاعة مما يضفي على من يرتدي هذا الزي الهوية العربية بسماتها الأصيلة وهو مبعث فخر لكل من يرتديه. ويتكون من عدة أجزاء: القمباز والروزا، الدماية ذات الأنواع العديدة مثل: الدماية العادية، الروزا، الأطلس، الصوف، بالإضافة إلى السروال، والعباءة، والساكو، الشيتة، والثوب، وغطاء الرأس المتمثل في الحطة ( الكوفية) والعقال، والعمامة والطربوش، والطاقية. وتعتبرالكوفية الفلسطينية باللونين الأبيض والأسود رمزا فلسطينيا لنضال الشعب الفلسطيني في سبيل حريته، ولم تكن بالأصل الشكل الحالي، بل كانت بيضاء تماما، أي من دون خطوط سوداء، وتسمى ' الشورة'، وكان يستخدمها الفلاحون في قرى الضفة الغربية، وما زال كثير من كبار السن يستخدمونها حتى الآن متمسكين بالكوفية الأصل. أما عن دخول الخطوط السوداء الى الكوفية، فيعتقد ان ذلك بدأ مع ثورة 1936 ضد الاحتلال البريطاني، والتي ارتبط فيها اسم الكوفيه لأول مرة بالكفاح الوطني، إذ أن الثوار استخدموا الكوفية البيضاء والسوداء، عام 1936 كرمز للتعارف في ما بينهم، وجدير بالذكر ايضا أن زي الرجل الذي يعيش في المدينة يختلف عن زي الرجل في الريف ، حيث انه يضع طربوشا على الرأس بدلا من الحطة والعقال، وفي الشتاء يرتدي الصوف بدلا من الحرير.
وفي اطار تعريف العالم بجمالية وعراقة وأصالة هذا الثوب الفلسطيني ولفت الأنظار الى التراث الفلسطيني وأبعاده الجمالية والثقافية، تمكنت مجموعة سيدات فلسطينيات ( 150 سيدة) بمساعدة متطوعين شباب، ورعاية مؤسسات أهلية ودولية، من حياكة وتطريز ثوب بطول 32 مترا و 60 سنتيمترا، محطما بذلك الرقم القياسي لأطول ثوب في العالم، وقد سجل هذا الإنجاز في موسوعة غينيس (World Records Guinne) للأرقام القياسية.
وإذا كانت الأزياء الشعبية تشكل جزءاً لا يتجزأ من حضارة الشعوب وخصوصياتها، فهي تعد امتدادا لجيل الآباء والأجداد، وتعكس وبصورة مباشرة التاريخ الحضاري لهذا الشعب أو ذاك، وتكشف عن كنوزه الثمينة في هذا المجال فضلاً عن كونها تحمل بين تقاسيمها دلالات عميقة ومهمة لكل ذي بصرٍ وبصيرة. وهناك الكثير وللأسف من يتجاهل أهمية الأزياء الشعبية ظنا أن التمسك بها تراجع وتخلف..!! متناسين بذلك جماليات الصورة وأبعاد الدلالة، وسيمفونية المعنى لهذه الأزياء البديعة. فلم تعد المشكلة في هذه الأيام بالنسبة لكثير من جوانب التراث، هي ماذا نختار وماذا نترك أو ماذا يستحق الحفاظ والإحياء، وإنما المسألة هي إنقاذ ما يمكن إنقاذه. ويقول أحد الحكماء: إن الشعب الذي يجيد فن التعبير هو الشعب الذي يجيد فن الموت للأعداء...!!
عبير علي - باحثة مصرية
عن موقع القدس
9/09/2010
|