جلال معوض .. الضوء والظل والزهايمر
تاريخ وراء الميكروفون وخلود في عدسة السينما التسجيلية



القاهرة - القدس العربي - من كمال القاضي الحديث عن النهضة الإعلامية في مرحلة الخمسينيات والستينيات لا يمكن ان يمر من دون ذكر الإذاعي الكبير جلال معوض، أحد الرموز البارزة في تلك الفترة فهو الرجل الأشهر والصوت الأكثر عذوبة وتأثيرا والقريب من رئيس الدولة وصناع القرار وصناعته، كما انه صاحب المسيرة الطويلة المليئة بالنجاحات والإخفاقات، وربما ذلك ما جعله بطلا لفيلم تسجيلي من إنتاج قناة النيل للأخبار يتم الاستعداد لتصويره بعد شهر رمضان، حيث اعتمدت ميزانيته بالفعل بعد ان تقدم المخرج سامي إدريس بالفكرة والسيناريو بالمشاركة مع واحد من الشباب الروائيين والكتاب هو صلاح الدين عيسى، وهو بالطبع ليس صلاح عيسى الكاتب اليساري المعروف، الفيلم يحمل عنوانه اسم الراحل نفسه باعتباره غنيا عن اي إضافة تسبق الاسم او تلحقه، فالإذاعي الكبير نار على علم وتاريخ مديد لا يمكن نسيانه او إسقاطه من الذاكرة الوطنية، فجلال معوض لمن لا يعرفه من مواليد كانون الثاني/يناير 1930 تخرج من كلية الآداب عام 1950 جامعة فؤاد الأول، ينتمي الى عائلة مرموقة بمحافظة أسيوط بجمهورية مصر العربية أو بالأحرى الجمهورية العربية المتحدة المسمى المعتمد الذي كان محببا اليه ويحلو له دائما ان ينطقه بصوته العريض ونبرته المميزة، عمل معوض مترجما بالإذاعة بقسم الأخبار في نفس سنة تخرجه، ثم حاول العمل مذيعا، ولكنه رفض مرتين لأسباب لم تفصح عنها لجنة الاستماع وان كان ما تردد بعد ذلك يؤكد ان صوته المحرض على الثورة كان هو السبب المباشر في الرفض .. لم ييأس المذيع الكبير وأصر على التقدم مرة أخرى لاختبار المذيعين فنجح بجدارة بعد ان تغيرت اللجنة وانضم اليها أعضاء رأوا في صوته جديدا لم يعهدوه من قبل، ولهذا الامتياز والتميز الواضح في إلقاء جلال معوض التحق بكتائب الفدائيين في التل الكبير والعباسية وأبو صير قبل قيام ثورة تموز/يوليو عام 1952 .. نقل المذيع الشاب الأحداث ووصفها وصفا تفصيليا عبر أثير الإذاعة ومن هنا كان حريا برؤسائه ان يلتفتوا الى تلك الموهبة الصاعدة بقوة والمتجهة نحو مستقبل يكون فيه الخطاب الثوري هو السائد، حيث يحجز جلال معوض لنفسه حيزا واسعا ويتبوأ مكانة تحت الأضواء فيصير الإذاعي المرافق لرئيس الجمهورية في جميع رحلاته والمختص بقراءة النشرة الرئيسية في الساعة الثانية والنصف ظهرا من كل يوم بتعليمات شخصية من الرئيس عبد الناصر، الذي كان يدرك بحسه السياسي المرهف ان المذيع النابه يضيف مضمونا إيجابيا للأخبار والأحداث ويجمع الناس حول الراديو فيكون التأثير أوسع وأشمل وأعم .. لقد تلاقت بصيرة الزعيم السياسي مع فطرة الإعلامي الناشئ وموهبته الطاغية، فتعانق الإثنان وعانقا بدورهما الثورة واشتعلت بفضلهما جذوة النهضة، وعليها توالى النجاح تلو النجاح وتدرج معوض في العديد من المناصب فوصل الى كبير مذيعين بمراقبة التنفيذ، ثم انتدب للعمل في إذاعة الخرطوم سرعان ما عاد بعدها الى الإذاعة المصرية للإشراف على الإذاعات الخارجية وتدريب المذيعين الجدد بجانب كونه مراقبا لبرنامج الموسيقى والغناء، وهي مهمة خطيرة تقوم عليها عملية التعبئة المعنوية والتواصل مع الجماهير، فقد كان جلال معوض خبيرا بالذوق الفني العام وما يحتاجه الشارع المصري والعربي في كل مرحلة، لذا اعتنى كثيرا بحفلات أضواء المدينة وقدم العديد من مشاهير الغناء والطرب ومنحهم فرصة ذهبية للتألق، فأحدث ثورة غنائية موازية لثورة يوليو وفي نفس الوقت لم يغفل دور الأغنية الرومانسية وتأثيرها العاطفي، فمن خلالها ارتقى الذوق في الاستماع والانتقاء والاختيار الدقيق المترتب على مرجعية ثقافية ووعي بالقضايا العامة .

ظل الإذاعي الكبير متربعا على القلوب لفترات طويلة بطول المسيرة الناصرية، الى ان باغته القدر برحيل عبد الناصر الذي كان الركيزة الأساسية في حياته فأصيب باكتئاب حاد وامتنع عن دخول الإذاعة وتقديم أية احتفالات، مما لفت النظر وأزعج الرئيس السادات، حيث كان يعرف انه أحد أسباب اكتئابه فعمد الى الطلب في حضوره وتقديمه في إحدى خطبه، فلبّى معوض الأمر مرغما ولكن حدث ما لم يحمد عقباه فقد وقف الإذاعي الحزين أمام الميكروفون متحشرج الصوت وقال بملء فيه حين لمح السادات يدخل قاعة الاحتـفالات بمجلس الأمة جملته الشهيرة التي جلبت له كل الويلات .. الآن يدخل القاعة الرئيس (جمال عبد الناصر) وحينئذ انقلبت الدنيا رأسا على عقب، رغم انه تدارك الأمر سريعا وصحح الخطأ، ولكن قد سبق السيف العذل فلم يفلح التصحيح .. بالمناسبة هذه الرواية وردت على لسان جلال معوض شخصيا في حوار أجريته معه بمنزله بعمارة ليبون بالزمالك قبل نحو خمس سنوات من رحيله، إذ حكى لي وقائع الفصل والنفي والتشريد، مؤكدا انه استشعر الخطر منذ ان ضغط الرئيس المؤمن على يده بشدة أثناء تأدية واجب العزاء الرسمي من جانب الإعلاميين في لقاء خاص برئيس الجمهورية الجديد، واختص أنور السادات كبير المذيعين بعبارات يفهم منها إحالته الى التقاعد، وبالفعل كانت النتيجة كما توقعها صاحبها، حيث أُخبر عند ذهابه لمكتبه بأنه في إجازة مفتوحة، ومن ثم حمل عصاه ورحل إلى ليبيا بدعوة من العقيد القذافي، بيد ان إقامته في العاصمة الليبية لم تدم طويلا وعاد مرة أخرى الى مصر يتقاضى معاشه كل شهر وينعم براحة وهدوء في منزله الأنيق مع زوجته الفنانة ليلى فوزي .. بعد سنوات من العزل فكر إبن الثورة البار وصوتها المدوي بأرجاء الوطن العربي كله في إعادة إنتاج الأغاني الوطنية لصديق عمره عبد الحليم حافظ بالاشتراك مع شركة صوت الفن ومديرها مجدي العمروسي وبدأ فعليا في تسجيل مقدمات الأغاني المختارة وتحمل عذابات الروتين بالأجهزة المعنية، فالكثير من أغاني عبد الحليم الوطنية كانت ممنوعة من التداول بالأسواق، لاسيما التي ذكر فيها اسم جمال عبد الناصر أو أشارت من قريب او بعيد اليه، ولكن المحاولة نجحت وتم صدور أول شريط يحوي المقدمات وبعض الأغاني المحدودة في الذكرى الخامسة لرحيل العندليب الأسمر، وكان هذا متنفسا للإذاعي الكبير الذي حُرم من الوقوف أمام الميكروفون وتحددت إقامته في بيته مبكرا فتوارى عن الأضواء بعد ان كان هو صانعها!

مرت السنوات تباعا وأخفق جلال معوض في محاولته الثانية لإصدار شريط آخر لمجموعة الوطنيات الشهيرة ودخل بعد ذلك في أطوار مرضية فأصابه 'الزهايمر' اللعين فسقطت من ذاكرته التواريخ والأحداث والأشخاص ولم يبق في الذاكرة إلا اسم واحد لشخص واحد هو الرئيس جمال عبدالناصر فقد ظل يردده على فراش المرض الى ان وافته المنية مساء يوم حزين من عام 1997.


4/09/2010




® All Rights Reserved, ABNAA' SUHMATA Association
  Best experienced using MS Internet Explorer 6.0, Screen is optimised for viewing at 800 x 600