"التلفزيون العربي" رائحة الزمن القديم في صوت عبدالناصر والثورة وكوكب الشرق
كنوز علي بابا في مغارة ماسبيرو
|
القاهرة ـ 'القدس العربي' ـ من كمال القاضي: أخيراً وبعد أن استنفد المسؤولون الإعلاميون، كبارا وصغارا كل السبل في إبهار المشاهدين بالجديد أو ما أسموه بالجديد، عاد التلفزيون المصري سيرته الأولى متخليا عن اسمه التجاري معترفا مرة أخرى باسمه القديم 'التلفزيون العربي' الذي أطلق عليه الرئيس جمال عبدالناصر إبان بدء الإرسال قبل خمسين عاما من الآن، وبالتحديد في الحادي والعشرين من تموز/ يوليو عام 1960 وهي الذكرى الغالية العزيزة التي انطلقت فيها قناة التلفزيون العربي من القاهرة، لنعود بالتاريخ الى الوراء ونرى ونسمع عبر الشاشة الفضية الصغيرة انجازات عبدالناصر ورجاله المخلصين تتجلى بوضوح غير قابلة للشك أو الجدل، فها هو وزير الإعلام حينئذ الدكتور عبدالقادر حاتم يتحدث عن تحديات تشييد التلفزيون المصري العربي سابع جهاز إعلامي مرئي في العالم، شارحا كيف كان المشروع ضروريا ومهماً في
ظل المواجهات السياسية التي كانت تقابلها ثورة يوليو من الذين أرادوا إحباطها في الشرق والغرب، وهي القوى التي لم تنجح في تحقيق مخططاتها تجاه الدولة العربية الناهضة من عتمة الاستعباد والملكية الى آفاق الحرية والانضواء تحت راية الجمهورية العربية المتحدة، في اليوم الموعود لبدء البث التلفزيوني عبر الصندوق السحري الصغير خلت شوارع القاهرة من المارة وتجمع الآلاف من الجماهير في الميادين الرئيسية ليشهدوا الاختراع الجديد ويستمعوا الى خطاب الرئيس صاحب الثورتين، السياسية والإعلامية، ومن واقع التسجيلات التاريخية رأينا ناصر وهو يقف بشموخ معلنا لأول مرة قيام دولة الإعلام العربي، مشيرا الى أهمية الانفتاح على العالم من تلك الشرفة الصغيرة كي يعرف القاصي والداني أن شرايين التواصل العربي العربي نابضة وقوية وأنه لا حياة ولا استقرار بدون التحام حقيقي بين الشعوب الشقيقة، منذ اليوم الأول كان البعد السياسي لدور التلفزيون العربي واضحا جليا، فالمهمة لم
تكن قاصرة على إذاعة البرامج الترفيهية والمسلسلات الدرامية، بل ان الهدف الفعلي يتجاوز تلك الغاية ويرمي الى غايات أخرى أبعد وأعمق، هكذا كان الرئيس صاحب بصر وبصيرة يراقب كل الجوانب ويلمح جميع الزوايا، فقد أكد ضرورة أن يعمل التلفزيون بكوادر إعلامية مصرية، وعندما جاءت نتيجة الاختبارات بين الشباب المتقدمين للعمل في هذا المجال الجديد مخيبة للآمال كانت الحلول جاهزة والاقتراحات بملء الفراغ قابلة للتنفيذ، وبالفعل تمت الاستعانة بالكوادر الإذاعية فهي الأقدر على استيعاب التكنولوجيا الأكثر حداثة والجديرة بالتعامل مع فن الصورة التلفزيونية، وبالفعل تولى المهمة نخبة من الإذاعيين الكبار سامية صادق وهمت مصطفى وليلى رستم وسلوى حجازي وسعد لبيب وآخرون صاروا بعد ذلك نجوما يشار إليهم بالبنان بعدما كانوا فقط أصواتا لا تجهلها الآذان في الشارع المصري والعربي، إن حصاد خمسين عاما من البث نراها الآن صورا وأشخاصا وحكايات وأحداثا حية على قناة التلفزيون العربي التي أثبت انطلاقها فشل المنظومة الإعلامية بكامل قنواتها في تحقيق المنافسة الحقيقية، فكان اللجوء الى عصر النهضة الستينية هو الملاذ والمخرج لتبيين الوجه الإعلامي المصري وتأكيد ريادته بأثر رجعي بعد أن استعصى على المنظومة الفضائية الحديثة إثبات ذلك في الوقت الراهن فما هو منسوب من ريادة عائد بالأساس الى الزمن الماضي، زمن الريادة السياسية والثقافية والاجتماعية تحت مظلة الخيمة العربية وليس بتميز الشقيقة الكبرى عن أشقائها في الدم والوطن والعرق.
إن الحديث عن الريادة لابد أن يوضع في سياقه التاريخي ولا ينسب فيه الفضل الى رجال تسلموا مفاتيح الخزائن وامتلكوا الكنوز بالوراثة، وإنما الإشارة هنا واجبة وضرورية وحتمية، حيث الفضل كل الفضل يعود الى من أسسوا وأرسوا القواعد وسكبوا العرق فكان نتاج جهدهم كل المؤسسات العملاقة في مختلف الاتجاهات، فثورة يوليو التي يحتفل بعيدها الآن على استحياء هي صاحبة الامتيازات في الفكر والثقافة والفن والإذاعة والتلفزيون، وجمال عبدالناصر هو الرائد الحقيقي للنهضة الخمسينية والستينية وحتى بداية سنة 70، سنة الحزن التي رحل خلالها الزعيم، فرغم المرض والمسؤوليات الجسيمة لم يتخل ناصر عن حلمه العربي ولم يفرط في أي من الحقوق العربية، ففي 1-7-1970 قبل رحيله بشهرين فقط كان يوجه خطابه الحاشد للجماهير الهادرة بطريقته الحماسية التعبوية ويحيي فيه غزة الباسلة والعريش الصامدة والجولان المقاتلة، فقد كان إيمانه بالقضية الفلسطينية إيمانا عقائديا، كما كان إيمانه ايضا على نفس الدرجة من اليقين بالقضايا العربية، ولعل هذا المعنى هو ما أشار إليه الكاتب والمفكر اليهودي الأمريكي نعوم تشومسكي مجددا في حواره مع الإعلامي الكبير غسان بن جدو بقناة 'الجزيرة' قبل أسابيع قليلة، فتشومسكي وصف عبدالناصر بأنه زعيم عربي كبير كان يحمل على كاهلة عبء القضية الفلسطينية، فهو الوطني المتطرف في وطنيته، هكذا جاءت الشهادة جلية لا لبس فيها، ولحسن الحظ أن القنوات الفضائية ذات الخط السياسي الثوري تذيع تسجيلات عديدة من خطب الزعيم العربي الوطني المتطرف في الوطنية فتؤكد يومياً أن عبدالناصر لم يكن ظاهرة صوتية كما يزعم خصومه السياسيون.
قناة التلفزون العربي اذاعت حتى كتابة هذه السطور العشرات من المواد الإعلامية المسجلة والأحاديث النادرة للدكتور طه حسين والعقاد ونجيب محفوظ وعبدالحليم حافظ وأم كلثوم ونزار قباني وفريد الأطرش وعبدالوهاب ونجاح سلام ووديع الصافي وصباح وغيرهم فنفضت غبار السنين عن أحداث ومناسبات ووقائع وذكرتنا بزمن كان حقا جميلا، وليتها تنبه الى شخصيات أخرى مثل الإذاعي الكبير جلال معوض ونظيره الكبير أيضا أحمد فراج، فالاثنان قامتان كبيرتان جلجل صوتاهما في ردهات الإذاعة وأثيرها وساهما في بناء الصرح الإعلامي مسموعا ومرئيا، تحية الى الإذاعي اللامع محمود سلطان وزميلاته سناء منصور وفريال صالح والحاضرة بصوتها وصورتها وإن غيبت عن المشهد الإعلامي نجوى إبراهيم، أهم ما يمكن أن تقوم به هذه القناة هو مد جسور الود والوحدة الإعلامية بينها وبين شقيقاتها من القنوات العربية، بغير ذلك لن تتفرد فالوحدة قوام القوة والتعاون عنوان الاستمرار و'التلفزيون العربي' لابد أن يكون لمصر والعرب وليس لمصر وحدها.
14/8/2010
|