كالأمس ... طائرات ايطالية تقصف مواقع حساسة في حيفا - جوني منصور
لهيب النيران والدخان المتصاعد جراء قصف خزانات النفط التابعة لشركة شل في الجهة الشرقية لحيفا
سرب من طائرات سلاح الجو الايطالي يقصف مواقع وصفت بأنها الأكثر استراتيجية في حيفا وضواحيها.
شوهدت أعمدة من الدخان تنبعث في ضواحي المدينة، خاصة في المنطقة الصناعية.
حالات من الهلع والفزع تسود أجواء المدينة.
مقتل وجرح عشرات المواطنين جراء القصف الجوي.
تذمر شديد من قبل مواطني الأحياء الفقيرة وتلك الكائنة في المدينة التحتا من نقص في الملاجئ والأماكن الآمنة.
معظم متاجر ومحلات المدينة تغلق أبوابها.
شوهدت عائلات كثيرة تغادر المدينة متجهة إلى القرى القريبة من حيفا.
حيفا: موقع استراتيجي من الدرجة الأولى
اعتبرت حيفا موقعًا استراتيجيًا ضمن المنظومة العسكرية البريطانية وذلك منذ اليوم الأول لاحتلال بريطانيا لهذه المدينة، أي في نهاية الحرب العالمية الأولى. وارتفعت مكانة حيفا خلال فترة الانتداب البريطاني (بين 1918-1948) من النواحي الإدارية والعمرانية والاقتصادية والعسكرية والصناعية. ولقد بادرت حكومة الانتداب البريطاني إلى جعل حيفا المدينة (بأل التعريف) الصناعية الأولى في فلسطين، كما أنها شيّدت فيها ميناء مركزيًا ليخدم مصالحها العسكرية والاستراتيجية الحاضرة والمستقبلية. وكسبت حيفا أهمية كبيرة خلال الحرب العالمية الثانية عندما وقعت سوريا ولبنان تحت سيطرة حكومة فيشي. ثم كسبت مكانة ودورًا كبيرين جدًّا عندما بادرت قيادة الأركان البريطانية إلى جعلها مقرًّا لها لما تقدم الجيش الايطالي ـ الالماني على جبهة العلمين في مصر. وعلينا الإشارة هنا إلى أن دول المحور والقصد هنا في هذه الحالة ايطاليا والمانيا، رأت أن حيفا ذات أهمية كبيرة لكون أنبوب النفط العراقي يبدأ من مدينة كركوك في العراق ويصب في معامل تكرير البترول في حيفا. لهذا قامت أسراب من الطائرات الايطالية بقصف مواقع حساسة جدًّا في حيفا وضواحيها، وكذلك قامت أسراب من الطائرات الالمانية بعد ذلك بالتحليق فوق مواقع هامة في حيفا وقصفها بقذائف ثقيلة.
نعم، لقد قامت طائرات ايطالية ومن بعدها المانية بقصف مواقع حساسة للغاية في حيفا كالأمس تمامًا قبل سبعين عامًا من اليوم. وها هو عجل الزمن يدور، ونستذكر تلك الأيام القاسية التي عاشها أهلنا وتعرضوا إلى ضيقات كثيرة، إلى أيام طويلة من القلق والفزع والخوف، ومنهم من يتذكر كيفية وقوع قتلى وجرحى وانتشار مظاهر الدمار والخراب في منطقة جامع الاستقلال وقرب الحسبة القديمة عند جامع الجرينة، وكذلك في المنطقة الصناعية القريبة من أحياء المدينة. واليكم تفاصيل تلك الغارات الجوية التي أيقظت أهالي حيفا في صباح لم يعد كبقية الصباحات التي عاشوها.
15 تموز 1940 الغارة الايطالية الأولى
كان لقاء حيفا مع سربين من الطائرات الايطالية مخيفًا للغاية في صبيحة الخامس عشر من تموز 1940 حينما حلقت طائرات هذين السربين الساعة التاسعة صباحًا فوق خزانات الوقود التابعة لشركة بترول العراق (IPC ) وألقت بعدد من قذائفها فوقها، بعضها أصاب هذه الخزانات واشتعلت النيران فيها وأحدث أضرارًا جسيمة في الممتلكات، وانتشرت حالات من الفزع والرعب في نفوس أهالي المدينة الذين، ولأول مرة، يتعرضون ومدينتهم إلى مثل هذا القصف. وأفاد شهود عيان أنّ مواطنًا عربيًا قد لقي مصرعه وأُصيب ثلاثة آخرين بجراح متفاوتة.
24 تموز 1940 الغارة الايطالية الثانية
في صبيحة الرابع والعشرين من تموز تعرضت حيفا إلى غارة ثانية من القصف الجوي على يد سلاح الطيران الايطالي، حيث أن عشر طائرات في مجموعتين نفذت القصف الشديد على أحياء في المدينة، خاصة في البلد التحتا وفي أطراف حي الهادار، فقتل جرّاء هذا القصف 46 مواطنًا وجرح حوالي 88 آخرين. وتعتبر هذه الغارة الأكثر وحشية التي تتعرض لها المدينة لأول مرة في تاريخها.
6 آب 1940 الغارة الايطالية الثالثة
كانت حيفا على موعد ثالث مع غارات الطائرات الايطالية، حيث حلقت عشر طائرات فوقها في عصر السادس من شهر آب عام 1940، وألقت عشرات القذائف فوق مخازن ومستودعات شركة البترول العراقية وشركة "شل" في المنطقة الصناعية والمنطقة المحاذية لمعامل تكرير البترول. وأدى القصف إلى اندلاع أصابع النيران في عدد من الخزانات وبالتالي إلى احتراق مئات الأطنان من النفط الخام. وأصيب عشرات المواطنين بجراح وصفت بأنها بين متوسطة وبالغة نقلوا على أثرها على المستشفى الحكومي حيث تلقوا العلاج تحت إشراف طبيب المستشفى الدكتور نايف حمزة.
إن تواصل تحليق سلاح الطيران الايطالي فوق أجواء حيفا وإلقاءه قذائف كثيرة دفع بالقيادة العسكرية البريطانية إلى الشروع باتخاذ إجراءات وقائية ودفاعية حماية لمصالحها وللسكان. وكانت الخطوة الأولى ضمن سلسلة الخطوات استدعاء بطاريات من القوة الاسترالية المرابطة في منطقة حيفا إلى الانتشار في محيط معامل تكرير البترول والمنطقة الصناعية القريبة منه.
13 أيلول 1940 الغارة الرابعة تصيب مستودعا ومطعمًا وكراجًا بالقرب من جامع الاستقلال
ألسنة النار واللهيب ترتفع عاليا بالقرب من جامع الاستقلال جراء قصف الطائرات الايطالية
لما باشرت القوات الايطالية بالتقدم نحو مصر من اتجاه ليبيا، قامت القيادة البريطانية بنقل مقر قيادتها إلى حيفا، وتمكنت الاستخبارات العسكرية الايطالية من معرفة ذلك، فقرر موسوليني إرسال أسراب من طائراته إلى قصف حيفا كجزء من عملية دك صفوف العدو. وفي المناسبة ذاتها باشر الطيران الايطالي بقصف مدينة تل ابيب منذ مطلع شهر أيلول من السنة ذاتها. وأدى القصف إلى مقتل قرابة 130 مواطنًا وجرح العشرات. وتواصلت طلعات الطيران الايطالي فوق أجواء حيفا في الشهر ذاته، حيث حلقت في الحادي والعشرين من أيلول أسراب من طائرات سلاح الجو الايطالي فوق حيفا وقصفت أحياء سكنية ومواقع صناعية في حيفا وجوارها. وأصيب العشرات من المواطنين بالقرب من جامع الاستقلال، خاصة الذين كانوا يقضون وقتًا في أحد مقاهي المدينة المجاور، وكذلك أصيب عدد من العمال في أحد كراجات المنطقة. وتمكنت المدفعية الاسترالية من إصابة عدد من الطائرات وإسقاطها. اعتبرت هذه الغارة الأشد والأصعب في سلسلة الغارات والطلعات التي نفذها الطيران الايطالي، حيث قتل أكثر من أربعين مواطنًا وجرح زهاء سبعين آخرين، معظمهم من المواطنين العرب لكون المنطقة المستهدفة عربية خالصة.
بالرغم من القصف المكثف الذي نفذه الطيران الايطالي بين شهري تموز وأيلول من العام 1940 إلا أن الطيران الايطالي لم يكن يمتلك أسرابًا متطورة من الطائرات ذات قدرة على قطع مسافات طويلة من جزيرة كريت التي وقعت بيد الالمان، أو حتى من سوريا التي وقعت تحت سيطرة حكومة فيشي الفرنسية الموالية لالمانية، لذا فإن تأثيرها لم يكن حاسمًا، إنما ألحقت أضرارا وسببت في مقتل وجرح العشرات من سكان حيفا وغيرها من المدن أو المناطق المحاذية لها.
الطائرات الالمانية تنضم إلى عملية قصف حيفا
صممت القيادة الالمانية في صيف العام 1941 بعد وقوع البلاد اليونانية تحت قبضتها على تسديد ضربات قاسية بواسطة سلاح الطيران الالماني على مواقع حساسة تابعة للحلفاء في مصر وفلسطين. ووجه الالمان ضرباتهم نحو أهداف استراتيجية بريطانية في الأساس، وعلى رأسها، بل في مقدمتها، معامل تكرير البترول في حيفا، لأنه في حالة نجاح عملية تدميرها فإن نقصًا في الوقود سيصيب الآليات الحربية البريطانية، وهذا ما يساعد على تحقيق تفوق الماني ـ ايطالي. التكتيك الذي استعمله الالمان هو التحليق ليلاً، ومن خلال أسراب قليلة العدد وإلقاء قنابل وقذائف تصل زنة بعضها إلى حوالي ربع طن. ومالت القيادة الالمانية إلى تبني هذا التكتيك منعًا لكشف طائراتها وترصد تحركاتها. ولما باشرت قوات الحلفاء في تنفيذ عملية إعادة السيطرة على سوريا ولبنان وطرد أتباع فيشي منها، باشرت الطائرات الالمانية في التحليق في سماء حيفا وغيرها من مواقع في فلسطين، وكان التحليق الأول في التاسع من حزيران عام 1941 ولكن الالمان لم ينجحوا في تحقيق أغراضهم من وراء هذه الغارة، حيث لحقت بعدد قليل من المباني والمواقع أضرار خفيفة. أما الغارة الثانية فنفذتها الطائرات الالمانية في الثاني عشر من حزيران وأودت بحياة مواطن واحد بإصابة مباشرة، ومقتل اثني عشر مسنًا في بيت للعجزة في طرف حي الهادار جراء انهيار سقف المبنى الذي أقاموا فيه. أما الغارة الرابعة فوقعت في السادس من تموز حيث قصفت ليلاً خزانات الوقود في معامل تكرير البترول، إلا أن الضرر كان طفيفًا لعدم دقة الإصابات. بينما نفذت الغارة الرابعة في التاسع عشر من تموز وألحقت أضرارًا مادية في عدد من المنشآت الصناعية القريبة من معامل تكرير البترول.
لم تعد حيفا هدفا
بعد أن تبين للقيادة الالمانية ـ الايطالية برئاسة رومل أن الغارات الجوية التي نفذتها أسراب من الطائرات الايطالية أولاً ثم الالمانية غير مجدية، تم تحويل مسارات الطائرات لقصف مواقع للحلفاء في جزيرة مالطة وجنوبي الاتحاد السوفييتي. ولكن بالرغم من هذا التحول أصرّت القيادة الايطالية على رصد تحركات البوارج والقطع الحربية البريطانية في شرقي حوض البحر الأبيض المتوسط، وخاصة تلك التي تشق طريقها نحو ميناء حيفا.
الغواصة "شيرا" تغرق على مقربة من شواطئ حيفا
حلقت طائرات استطلاعية المانية في سماء حيفا وقامت بتصوير بعض من المواقع المركزية في ميناء حيفا وذلك لنقل الصور إلى الغواصة الايطالية "شيرا" لتقوم بالاقتراب من سواحل حيفا، وعندها يخرج منها غواصون يلصقون قذائف وألغام في عدد من السفن البريطانية ويتم تفجيرها. ورغم أن أسرابًا من الطائرات الحربية البريطانية قد اعترضت سبيل طيران الطائرات الاستطلاعية الالمانية، إلا أن الطائرات الالمانية نجحت في التقاط صور من ارتفاعات عالية وصفت بأنها واضحة للغاية لعدد من الأهداف التي كان مقررًا قصفها على يد الغواصة "شيرا"، إلا أن سلاح البحرية البريطاني نجح في إغراق الغواصة على بعد أحد عشر كيلومترًا عن ميناء حيفا، وهكذا تم إنقاذ ميناء حيفا والسفن البحرية الراسية فيه، من الانفجار.
طائرات فرنسية تابعة لحكومة فيشي تشترك في الغارات
ولم تسلم حيفا من الطائرات الفرنسية التابعة لحكومة فيشي، إذ أن سربًا منها قام بقصف حيفا في نهاية حزيران ومطلع تموز من العام 1941 والتسبب في مقتل عدد من المواطنين وإلحاق أضرار في الممتلكات، وفي إحدى الغارات الجوية تم إسقاط إحدى الطائرات ومقتل طياريها.
حيفا: شهادة حيّة في الصمود والتحدي وحب البقاء
وهكذا برهنت مدينتنا أنها تستطيع أن تصمد، وأنها ترفض الرضوخ أو الوقوع في كمين الخوف والرعب والتوتر، وأن هذه حالات طارئة جدًّا. لقد فشلت محاولات الطيران الايطالي والالماني من تسديد ضربة قاضية نحو المدينة ، وبالتالي إلى الانسحاب من كافة عمليات قصفها جوًّا. وقدّمت حيفا شهادة حية للصمود ومواجهة تعديات الغرباء. ويطوي التاريخ صفحاته، وتبقى مدينتنا الشاهد القوي لوجودنا وبقاءنا.
30/7/2010
® All Rights Reserved, ABNAA' SUHMATA Association
Best experienced using
MS Internet Explorer 6.0, Screen is optimised for viewing at 800 x 600