• حدثته هاتفياً مرتين أو ثلاث مرات لمناسبات مختلفة، لكن لقائي الأول به (والأخير للأسف) كان في الندوة التي أقامها "منتدى الفكر العربي" في عَمّان بمناسبة الذكرى الستين لإعلان قيام "دولة إسرائيل": ذكرى "النكبة" الفلسطينية العربية في فلسطين عام 1948م، التي أصر الدكتور عبدالوهاب المسيري على تسميتها بذكرى "التطهير العرقي" لعرب فلسطين، مؤكداً بذلك على الفعل الإجرامي الإرادي المنهجي للصهاينة، بعكس مصطلح "النكبة" الذي يحمل ظلالاً غائمة لا تحدد "الجريمة" ولا "الفاعلين". وهو ما يؤكده المؤرخ الإسرائيلي المتمرد الدكتور "إيلان بابيه" الذي قدم - استناداً لوثائق الجيش الإسرائيلي ومعاينة مواقع "الجريمة" في فلسطين- كتابه المهم: "التطهير العرقي لفلسطين" الذي صدر بالإنجليزية وترجم إلى العربية وإلى العديد من لغات العالم، ليكشف للعالم وبقلم "يهودي إسرائيلي منصف"، فصول ومشاهد الجريمة المنظمة التي أدت إلى احتلال فلسطين وتهجير شعبها.
* * *
تحدث د. المسيري في الندوة الحاشدة، بثقة عالية عن يقينه بحتمية هزيمة "إسرائيل" واندحارها، استناداً إلى دراساته المطولة والمعمقة لها: دولة، وجيشاً، ومؤسسات، ومجتمعاً (أو جماعات) وثقافة، وقيماً، وسلوكاً، وارتباطات عضوية عميقة بالاستعمار والإمبريالية.
وهي دراسات تابعها بدأب وصبر وصاغها في سِفره الكبير المكون من ثمانية مجلدات: "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري جديد" التي كرس عشرين عاماً من عمره لإنجاز تأليفها؛ إضافة إلى كتبه الأخرى المتعلقة بالصهيونية, سواء ما صدر منها بالعربية أو بالإنجليزية.
ولكي لا يترك "يقينه" بهزيمة إسرائيل، انطباعاً اتكالياً خاطئاً لدى المستمعين، فقد أكد على ضرورة استمرار الرفض والمقاومة العربية لإسرائيل: دولة الاستعمار العنصري الاستيطاني الإحلالي الإجلائي.
وهو "يقين" و"رؤية استراتيجية تاريخية" وافقتُ الدكتور المسيري عليهما، في المداخلة التي قدمتها تعقيباً على حديثه المميز المضاد للمزاج الشائع في صفوف الاكاديميين والسياسيين العرب الذين "يعلكون" بلا كلل منذ سنوات طويلة أفكاراً وعبارات من نوع: "المصالحة التاريخية", و"السلام", أو "السلام العادل والشامل" إذا ما أراد البعض منهم أن يبدو متشدداً!
وهي أفكار وعبارات لا معنى لها وتعكس "فكراً رغائبياً ذاتويا" في أحسن الأحوال، لأنها تغيِّب ما هو أساسي وضروري في فهم الصراع الدائر ومُحدِداتِهِ: رؤية وموقف وسلوك "إسرائيل" والدول الداعمة لها وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية.
* * *
لكن تميُّز الدكتور عبد الوهاب المسيري لا يقف عند حد هذه الرؤية على أهميتها الفائقة، فهو شخصية متعددة الاهتمامات والحضور. فعلاوة على كتاباته ومؤلفاته العابرة للتخصصات والمجالات المعرفية: الفكرية، والسياسية، واللغوية، والأدبية، والنقدية، وعمله الأكاديمي والاستشاري في جامعات ومراكز وهيئات عديدة عربية وإسلامية وأجنبية، فقد ربط المسيري الفكر والمعرفة بالعمل السياسي المباشر الذي عبر عنه اختياره لتولي مهمة "المنسق العام" لـ"حركة كفاية" المصرية، وهو ما أضفى على العمل السياسي في الشقيقة مصر، حيوية خاصة بانضمام شخصية بوزن وفاعلية د. المسيري الذي اتسم بالمقدرة على مخاطبة تيارات المعارضة الوطنية المتعددة، فحظي باحترامها جميعاً، وباحترام الطيف الواسع من المثقفين والأكاديميين والساسة والمفكرين والإعلاميين والدعاة في مصر وفي الوطن العربي على السواء.
أما قدرته على التواصل مع جيل الشباب وعموم الناس البسطاء ومخاطبتهم، فتدل عليها اللقاءات والمحاورات التي كان يعقدها معهم على أرصفة الشوارع، وروح الدعابة العالية التي تحلى بها.
* * *
وإذ أجهد العمل الذهني والبدني الدؤوب جسد المسيري، وفتك به "سرطان الدم"، فقد رحل عن سبعين عاماً (1938م-2008م) وهب قرابة نصف قرن منها بإخلاص لخدمة قضايا أمته.
طـوبـى لـروحـه..
ولتَعِــشْ ذكــــراه.
(*كتبت هذه المقالة تكريماً لذكراه, بُعيدَ رحيله في الثالث من تموز-يوليو-2008)
17/7/2010
|