كبوجي لـ"البناء ": ركبت السفينة أولاً وثانياً وإن شاء الله سأركبها ثالثاً -
اوغاريت دندش


بابتسامة لا تفارق وجهه يستقبلك، وباندفاعة قل مثيلها يبادر الى الحديث عن استنكاره لاعتقال نواب حركة حماس، لكنه يتدارك الموقف بالقول: "طالما هنالك امل هناك حياة ولا خوف على المستقبل" . مطران القدس في المنفى هيلاريون كبوجي وفي لمبادئه حتى الرمق الاخير، يبحث بين الفرص عن احتمال جديد للعودة، ويرفض عروض الاستقرار في الشرق ويبرر ذلك بقوله: "لن اعود من منفاي الا الى القدس، هناك دفنت قلبي، هناك ينتظرني لاعود واسترجعه".

لا يخفي كبوجي تعبه من التنقل المستمر لا سيما في الايام الاخيرة بين دمشق والبقاع وبيروت، لكنه يذكر باعتماده مبدأ "ما نيل المطالب بالتمني"، وعند سؤاله عما اذا كان "شفى غليله" بمشاركته على اسطول الحرية يستنكر السؤال ويستفيض: "المطران راع واب لا يمكنه رؤية ابنائه يتعذبون ويبقى مكتوف الايدي، الراعي عندما يرى الذئب مقبلاً يضحي بالغالي والنفيس لحماية قطيعه". ويردف قائلاً: انا راع ورعيتي هي الشعب الفلسطيني باكمله ورعايتي لا تتوقف عند رحلة هنا او محاولة هناك.

"لذا ركبت السفينة اولاً وثانياً وإن شاء الله ثالثاً"، وعن التجربة الثالثة: يتوقف لحظات، يأخذ نفساً عميقاً، يترحم على الشهداء، يعدل من جلسته، وبنبرة شرسة يتحدث كيف تعرض للاهانة على يد جنود الاحتلال الذين بصقوا في وجهه "اعتدوا علي بالضرب ووضعوني مع ثمانية من المتضامنين في غرفة تتسع لثلاثة، بعد ساعتين شعرت بالم في رجلي المريضة فوقفت في مكاني لاحاول اراحتها، تقدم مني جندي ودفع بي بقوة على المقعد الحديدي بعد ان رفضت الامتثال لاوامره بالجلوس"، يرفع مطران القدس اصبعه ويشرح "قال لي (ويلا) اجلس" آثار الدفعة تظهر على ظهره لكنه على الرغم من المه يؤكد انه لم يسكت واجاب: "ظهرتم على حقيقتكم، انتم وحوش وارهابيون وكما قال لي ( ويلا) قلت له (ويلا) اترك الكلاشينكوف وتعال واجهني كرجل وانا ساسحقك".

ابن التاسعة والثمانين يخبر بفخر كيف صفق له من في الغرفة معه ويكمل روايته "نزلنا من السفينة الى السجن، وعندما ارادوا اطلاق سراحنا طلبوا مني جواز سفري فرفضت تسليمه وقلت للضابط: "انا لم آت لزيارتكم حتى تأخذوا جواز سفري، لا توسخ هذا الجواز النظيف". لكنه اخذه بالقوة وختم عليه بالختم "الاسرائيلي" وقال لي: "هذا الختم يشرفك ويشرف سورية"، (المطران يحمل الجنسية السورية) فما كان منه الا ان اجاب الضابط اليهودي "فاقد الشيء لا يعطيه ايها الحيوان، انتم لا شرف ولا اخلاق لكم".

عند سؤاله اذا كان يخطط لرحلة جديدة يبتسم ويشير الى خاتمه (يلبسه رجل الدين) ويشرح: "خاتمي هو دليل زواجي من فلسطين وابنائها، يوم الدين عندما يسألني ربي ماذا فعلت لشعبك المظلوم، علي ان اجيبه انني قمت بكل ما استطعت واني جربت وعملت من اجل ان نعيش كراماً في وطننا". ويضرب بيده على صدره وهو يردف منفعلاً: "يوم الدين وهو قريب جداً بالنسبة لي سأقف لاقول اني عملت بتعاليم الانجيل المقدس وبقول السيد المسيح: كنت جائعاً فاطعمتني، مريضاً فداويتني، بلا مأوى فآويتني، فادخل الى فرح ربك".

من اللحظات القليلة التي ترى الغصة في حلقه هي عند سؤاله عن القدس وتهويدها، يرفض تحميل الفاتيكان المسؤولية ويسأل اين العرب؟ "نتباهى بمحبتنا للقدس لكن المحبة اذا بقيت مجرد عاطفة فهي كذب ونفاق، المحبة فداء وبذل وتضحية، المثل يقول تعلم الادب من قليل الادب "الاسرائيليون" لا يتكلمون ويفعلون، اما نحن فنقول ولا نفعل".

ويشرح مطران القدس كيف ان يهودياً واحداً دفع مليار دولار لتهويد القدس، اما العرب وفي قمة سرت فدفعوا مجتمعين نصف مليار لمحاربة التهويد.

يحذر كبوجي من ان اليهود سيمنعون الآذان في القدس، وهم يحفرون تحت الاقصى تمهيداً لتدميره وبناء هيكل سليمان، وقد احاطوا القدس بالمستعمرات وعزلوها عن الضفة تمهيداً لاستكمال التهويد واعلان دولة يهودية.

وعن رؤيته للمستقبل يدعو كبوجي كما العادة الى الوحدة لأن "الفلسطينيين سقطوا في الحفرة التي حفرها العدو، حلمي ان ارى ابنائي موحدين مجدداً لاعود الى القدس واسترجع قلبي الذي زرعته يوم اخرجوني من السجن الى منفاي، على ارض المطار انحنيت، اودعت الارض قلبي ووعدتها بان اعود". ينظر الى البعيد الى ما وراء الافق "واللهِ اذا قالوا لي اني اذا ذهبت زحفاً على ركبي ساصل الى فلسطين لما توانيت عن الانطلاق الآن، سعادتي ان تغيب الشمس يوماً وانا اسمع مآذن القدس تصدح الله اكبر متناغمة مع اجراس كنيسة المهد في سمفونية ستسقط جبروت الاعداء".

وعن احتمال بقائه في الشرق عوضا عن العودة الى الفاتيكان يجيب: "تلقيت عروضاً للسكن في قصر في الشرق، لكني مصر على ان هذا سيعتبر استسلاماً مني وقناعة بان العودة الى فلسطين مستحيلة، وانا ارفض ذلك، نفيت من القدس وسأعود اليها، وانا حتى لو قررت السكن في الشرق، فأنا سأقيم في منزل بسيط صغير، كيف اتنعم وابنائي محرومون في ارض المسيح؟ كيف اكمل وجبة واطفال جياع في ارضهم؟".

يجلس مطران المقاومة أمام التلفاز يتابع اخبار الارض المحتلة يتنقل بين القنوات، يعلق، يبدي غضبه من تخاذل الإعلام، في رقبته صليب، على اكتافه هموم القضية، وفي عيونه حلم فارق اذهان الكثيرين لكنه بقي متشبثاً بنبتة زيتون من القدس تختزن حنيناً الى ارض احبها، ومقاومين امن لهم يوماً سلاحاً. اجتاز الحدود حتى اعتقل متلبساً "بجريمة المقاومة" فدفع سنوات في السجن ليخرج بموجب اتفاق مع الفاتيكان، اتفاق لم يعلم به ويقول عنه: "انا اليوم سجين في العالم بدلاً من ان اكون حراً بين القضبان ولكن على ارض فلسطين".


عن جريدة البناء
8/7/2010




® All Rights Reserved, ABNAA' SUHMATA Association
  Best experienced using MS Internet Explorer 6.0, Screen is optimised for viewing at 800 x 600